احترس من الأوساخ!

25 ديسمبر 2014
+ الخط -

بهزيمة الثوار وحدهم تنهزم الثورات، ولا أظن أن هناك شيئاً يدفع الثائر للهزيمة، الآن، أكثر من أن يجبره الأوساخ على خوض معارك تهدر طاقته في غير محلها، فيتحول من موقع المهاجم الساعي إلى تحقيق أهداف ثورته إلى موقع المدافع عن إيمانه بها، وبدلاً من أن يصبح مصدراً للطاقة الإيجابية التي تدفع الناس إلى الحلم بغد أفضل، يجد نفسه معرضاً للاختناق، من فرط ما يُرمى عليه من وساخات الذين يفضلون ركود المستنقعات المستقرة على ثورة الأنهار المتدفقة. 
لاحظ أنني تحدثت عن الأوساخ دون غيرهم، ولم أتحدث عن الحائرين أو المتشككين أو المحبطين أو الراغبين في خلاص سريع، فهؤلاء يروحون مع تقلبات الواقع ويجيئون، وخلف إحباطهم وزهقهم وحيرتهم لا يوجد عداء حقيقي للثورة بقدر ما توجد رغبة إنسانية في أن تنصلح الحال في أسرع وقت، وأنت بحسّك تستطيع أن تفرق بين هؤلاء وشخص صارت قضية حياته أن يثبت أنه كان محقّاً، عندما قطع الطريق على أدوية ذاهبة إلى ميدان التحرير، وقام برميها في النيل، أو عندما خاض في سمعة "البنات واللي ودّاهم هناك"، أو عندما تمنى للثوار الحرق عن بكرة أبيهم. ولذلك، فهو يبالغ في الحديث عن النعيم الذي كنا نعيشه أيام مبارك، وعدم معرفتنا بقيمته ونكراننا لأفضاله، ومثل هذا سيكون عاراً عليك أن تضيع ثانية من عمرك في إقناعه بوساخة ووضاعة ودناءة أحوالنا في أيام مبارك، سيكون ذلك تماماً مثل محاولة إقناع عاهرة بأن ما تعانيه من صعوبات الحياة، بعد اعتزالها الدعارة، ليس معناه أبداً أن اختيارها الشرف كان قراراً خاطئاً.
لا خير في ثورة شعبية من دون شعب يساندها، ويؤمن بها، لكن بقاء الثورة أو فناءها لا يتوقف إلا على صمود الثوار الذين يواصلون دائماً ترميم ذواتهم الثورية، طبقاً لوصف المفكر الثوري، علي شريعتي، في كتابه الرائع (بناء الذات الثورية) الذي لا أمل من تكرار تأمل عباراته "إن الإنسان لا يستطيع أن يبقى مخلصاً وصادقاً في ثورة اجتماعية حتى النهاية، ووفيّاً لها، إلا إن كان ثوريّاً قبلها، ومتناسقاً معها، فليس الإنسان الثوري هو الذي يشترك في ثورة اجتماعية فحسب، فما أكثر الانتهازيين والمغامرين والنفعيين الذين يشتركون فيها، وهم جرثومة الانحراف في كل الانتفاضات، وفشل كل الانتفاضات من جراء اشتراكهم فيها، لأن الثوري، قبل كل شيء، جوهر أعيدت صياغة ذاته". لذلك، يمكن أن تفهم، على سبيل المثال، لماذا لم يعلن عبد الله النديم ندمه أبداً على الاشتراك في الثورة العرابية، حتى بعد أن أصبح اسمها الرسمي (هوجة عرابي)، فقد ظل مؤمناً بها، وبأهدافها، ولم يتعامل معها كبيعة وشروة، ينحاز لها بعد إحصاء المكاسب والخسائر. ولذلك، ظل يناصرها حتى نهايته التي حلت، قبل أن يشهد رد الاعتبار لهذه الثورة، ولكل من شارك فيها، وعلى رأسهم قائدها أحمد عرابي الذي أجبرته ضغوط الواقع المرير على أن يرتبك لحظات، ويتشكك في صحة ما فعله، قبل أن يستعيد ثقته في سلامة موقفه وصحة اختياره.
من يقرأ ما كتبه المؤرخ كرين برنتون، في تشريحه أكبر أربع ثورات في التاريخ، أو ما كتبه جوستاف لوبون عن نفسية الناس عقب الثورات، يدرك أن ما نعيشه، الآن، أمر طبيعي للغاية، لم تنج منه ثورة أيّاً كانت، لكن ذلك لن يفرق ببصلة لمن تفرجوا على الثورة وراقبوها من بعيد، كارهين أو متعاطفين أو غير مكترثين، لأنهم محكومون بعواطفهم ومصالحهم، وهذا أمر لا يعيبهم في شيء. على كل إنسان أن يتحمل نتيجة اختياراته في الحياة، ولذلك، على الثائر أن يتذكر أن الثورة بدأت لديه كحلم، كاختيار فردي، كحالة عشق لا يمكن حسابها بقواعد المكسب والخسارة، وأنها يجب أن تظل كذلك حتى النهاية، نهايته أو نهايتها، لا يهم، المهم أن لا تدفعه هذه المطحنة العصيبة إلى إهمال بناء ذاته الثورية، والحفاظ على نظافتها. في الحروب الطاحنة، يحدث كثيراً أن يضل الإنسان هدفه، فتنطلق نيرانه لتصيب بعض ما كان يحارب من أجله، هم يُسمّون ذلك تهويناً من أثره "نيراناً صديقة"، لكن الحقيقة أنها تقتل تماماً كالنيران العدوة. لذلك، عندما يختلط الحابل بالنابل، وتتعدد الروايات، تذكّر أهمية المراجعة النهائية الدائمة لما خرجت من أجله تحمل روحك على كفك، يوم أن كانت هذه الثورة تبدو للجميع مغامرة حمقاء. 
_______________________________________
جزء من أحد فصول كتابي (البهاريز) ـ يصدر قريباً بإذن الله

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.