"سي آي إيه".. الممارسات تتجاوز شرعية التحقيق

"سي آي إيه".. الممارسات تتجاوز شرعية التحقيق

14 ديسمبر 2014

تظاهرة أمام مجلس الشيوخ الأميركي احتجاجاً على التعذيب (30يوليو/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

قبل أيام، صدر تقرير خطير للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، حول طرق التعذيب التي استعملتها أجهزة التحقيق في الوكالة مع المعتقلين في حوادث 11/9. وكشف عن وسائل غير مسبوقة في "وحشيتها"، لجأت إليها الوكالة لحمل هؤلاء على البوح بمعلومات عن العملية، كما عن تنظيم القاعدة وخططه وقياداته. وقد أثارت بشاعة صنوف التعذيب موجة صاخبة من الإدانة لتلك الإجراءات اللاإنسانية التي لطّخت صورة وكالة الاستخبارات، كما لم يحصل من قبل. ولم يكن مفاجئاً أن يهاجم المحافظون، خصوصاً بعض كبار مسؤولي إدارة جورج بوش، وأيضاً في الكونغرس والإعلام، التقرير، بزعم أنه محكوم باعتبارات سياسية، غايتها تشويه سمعة إدارة الرئيس بوش التي جرت تلك الممارسات في عهدها. فهم بذلك، وخصوصاً نائب الرئيس السابق، ريتشارد تشيني، يدافعون عن إرثهم من جهة، ويعملون على تقليل الخسائر التي لحقت بالحزب الجمهوري، نتيجة ما كشفه التقرير من فضائح وتجاوزات وخداع، لحجب ما جرى عن الأنظار، خصوصاً عن البيت الأبيض والكونغرس، لكن دفاعهم الهزيل عن برنامج التعذيب الذي اعتمدته "سي آي إيه"، بزعم أنه كان ضرورياً لحماية الأمن القومي، لم يفلح في تخفيف حدة الصدمة والدهشة التي طغت على غالبية الردود السياسية والإعلامية، ومدى الاستياء والرفض للمدى الذي بلغته شراسة الأساليب، والتي تندرج في خانة "العار على الولايات المتحدة"، كما تقول "نيويورك تايمز".

صحيح أن 11/9 كانت عملية في ذروة الإرهاب الذي يستدعي الرد بدرجة مناسبة، تكون، من جهة، عقابية مستحقة، ومن جهة ثانية، ردعية، بحيث تمنع تكرار مثل تلك الفاجعة الإرهابية. ولكن حصول جانب من الرد بالطريقة التي جرى فيها التحقيق الذي تولته "سي آي إيه"، والذي دانته اللجنة، في تقريرها، يندرج في خانة الثأر الذي يكاد يماثل الاستفزاز الإرهابي. بمعنى آخر، لا تتحقق الغاية من التحقيق بوسائل وأساليب قريبة من بعض الممارسات الإرهابية، مثل تلك الحالة التي جرى فيها ترك أحد المعتقلين مكبّلاً وعارياً في غرفة مظلمة وشديدة البرودة، أدت إلى وفاته، كما ذكر التقرير، فهذا من شأنه أن يجهض الغاية المرجوّة. فتحقيق الهدف المرغوب والمطلوب لا يتحقق، ولا يجوز أن يتحقق بهذه الطريقة. والبرهان أن لجنة مجلس الشيوخ، برئاسة السناتور فاينستاين، أكدت على عدم جواز هذا الأسلوب، لأنه، كما قالت، يتنافى مع "القيم والقوانين" السارية، والمطلوب الانضباط ضمن حدودها، فضلاً عن أنه لم يعط النتيجة المرغوبة في انتزاع المعلومات، على ما جاء في التقرير. إضافة إلى ذلك، شعر أميركيون كثيرون، وهم على حق في ذلك، بأن الممارسة من هذا النوع تنسف مضمون الخطاب الأميركي حول حقوق الإنسان، والحرص على الديمقراطية ومؤسساتها، واستقامة عملها، ومنها التحقيقات، لأن الناس تفقد ثقتها بها، عندما يتبيّن أنها مغالية في الانحراف والعنف.

من المفارقة أن انكشاف هذه القضية المحرجة حصل في عهد رئيسٍ سبق له أن سارع، منذ مجيئه، إلى منع أساليب التعذيب بوسائلها كافة، بمقتضى قرار تنفيذي. وقد تسبب التقرير بإحراج للرئيس، كون مدير "سي آي إيه" الحالي، جون برانون، من المقرّبين للرئيس الذي عيّنه في هذا المنصب، أخيراً، وبهذه الصفة كمدير، كان لا بدّ له من أن يرد دفاعاً عن سمعة الوكالة التي يرأسها. الأمر الذي أحدث نوعاً من عدم الارياح المتبادل، ولو أنه لا برانون، ولا البيت الأبيض، له علاقة بهذه الممارسات.

الدرس القوي الذي أعطته هذه التجربة المكلفة والمحرجة، أن الهدف السليم والشرعي لا بدّ أن تقابله وسائل وأساليب مستقيمة وشرعية، وإلا فقدت مبتغاها، كما حصل في قضية التعذيب التي دانتها اللجنة، وفجّرت أزمة سياسية وإدارية. الغاية الشرعية يجري تحقيقها بالطرق التي تتّسم بالمواصفات المشروعة نفسها. والدرس الآخر هو أنه عندما ترتكب الحكومات، أو مؤسساتها، خطأً بهذا الحجم أو غيره، عليها، أولاً، الاعتراف به، وتالياً تحمّل مسؤوليته، من حيث المحاسبة والثمن. ولا تنطبق هذه القاعدة على الولايات المتحدة فقط، وإنما على جميع الدول والمنظمات والحكومات في العالم، بما فيها بلداننا العربية، حيث غالباً لا اعتراف ولا محاسبة.

خلاصة الكلام، الوسائل والغاية لا بّد أن يكونا من النسيج نفسه.