12 يوماً هزّت غرب المتوسط وشمال أفريقيا

12 يوماً هزّت غرب المتوسط وشمال أفريقيا

21 ديسمبر 2021
+ الخط -

التقليد السنوي لتقديم الحصيلة السياسية العامة، مع مطلع كل شهر ديسمبر/ كانون الأول، قد يمكن تلخيصه في يوم واحد بالنسبة لحوض الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا، العاشر من آخر شهور سنة 2020. دخلت المنطقة برمتها فيه إلى تاريخ جديد، عندما أعلن الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عن الاعتراف بالسيادة المغربية على إقليم الصحراء، وتلاه يوم 22 ديسمبر من السنة نفسها التوقيع على الاتفاق الثلاثي بين الولايات المتحدة وإسرائيل والمغرب. وكانت 12 يوما كافية أن تزلزل كل العلاقات في غرب المتوسط وشمال أفريقيا، بحيث إن 2021 كان رجع الصدى لما تم أواخر السنة التي سبقتها، فالاعتراف من الدولة التي تتولى شؤون العالم، وخصوصا الدولة "حاملة القلم" في ملف قضية الصحراء جنوب المغرب، لم تتقبله أطرافٌ كثيرة في المنطقة، ومنها حلفاء واشنطن ذاتها في الغرب الأوروبي وفي حلف الناتو، من قبيل إسبانيا وألمانيا، إضافة إلى صمت موارب من باريس. وكما سيبقى عالقا في سجلات التاريخ وذاكرة متتبعي شؤون المنطقة أن هذه الدول الثلاث عرفت توتراتٍ غير مسبوقة في علاقتها مع المغرب، الضلع الثالث في مثلث الاتفاق.
بالنسة للاعتراف بحد ذاته، راهنت برلين ومدريد والجزائر العاصمة (وموسكو من بعيد) على تراجع إدارة الرئيس بايدن عن موقف سلفه الذي لم يكن يتفق معه في قضايا كثيرة، فمدريد أعادت التذكير بالحل الأممي العائم، وتحرّكت كل أذرعها، بما فيها بعض الوزراء في التحالف الحاكم، من أجل مطالبة بايدن بإلغاء الاتفاق، والتراجع عن مضامينه. وذهبت إلى حد أبعد، عندما استقبلت زعيم الانفصاليين، إبراهيم غالي، تحت اسم مستعار، محمد بن بطوش، الشيء الذي أحدث أزمة ما زالت نيرانها خامدة في رماد الديبلوماسية المعلقة. ولم تجد إسبانيا الآذان الصاغية لدى صاحب القرار في البيت الأبيض، وفي إدارته. والأنكى أنها لم تتوفق في عقد لقاء ديبلوماسي جاد مع الإدارة الجديدة، والصورة الوحيدة التي علقت بذاكرة الإسبانيين صورة رئيس حكومتهم، بيدرو سانشيز، وهو يحاول اغتنام أقل من دقيقة رفقة الرئيس بايدن في قمة بروكسل لزعماء دول حلف الناتو، لتعويض جفاء واضح منه طوال الفترة التي يسوس فيها البلاد.

سعت كل مراكز الضغط المرافقة للجزائر إلى محاولة توسيع مهام البعثة الأممية في الصحراء (المينورسو)، لكي تشمل مراقبة حقوق الإنسان

وتبين في أول امتحان دولي للقرار الصادر عن ترامب، عند مناقشة قضية الصحراء في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أن الدولة الأميركية تبنّت في شخص إدارة جو بايدن مضمون الاعتراف، وكانت وراء قرار الأمم المتحدة 2602، والذي حصل على أغلبية ساحقة داخل مجلس الأمن، وتقدّمت مندوبة واشنطن في المجلس نفسه بدعم الحكم الذاتي علانية ورسميا، بوصفه مقترحا مغربيا موضوعا لدى الأمم المتحدة منذ 2007. وكان القرار قد أقبر نهائيا الاستفتاء الذي تطالب به الجزائر وبوليساريو، بالدعوة إلى حل سياسي سلمي عملي مقبول من جميع الأطراف، كما أقبر تقرير المصير كصيغة فضفاضة في الحل، وتعويضه بالحكم الذاتي حلا واقعيا جدّيا وذا مصداقية.
والعنصر الحاسم الآخر، والذي سعت إليه كل مراكز الضغط المرافقة للجزائر محاولة توسيع مهام البعثة الأممية في الصحراء (المينورسو)، لكي تشمل مراقبة حقوق الإنسان، وهو أمر مهم للغاية، إلى درجة أن المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة، كريستوفر روس، سماه الجبهة البديلة، وهو يقصد تركيز النيران على هذه القضية. وفي هذا السياق، ذكّرت صحيفة إنفورماسيون الإسبانية بحادثة ديبلوماسية ذات أهمية بالغة في سياق الموقف الأميركي الجديد. وكتبت "يجب أن نتذكّر أنه في عام 2014 استقبل محمد السادس الرئيس الأميركي الحالي، ونائب رئيس الولايات المتحدة آنذاك، في ضوء العلاقات المتوترة بين البلدين. لم يكن السبب سوى الاقتراح المقدّم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي يمنح مهام مراقبة حقوق الإنسان لبعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية. وقد وضع المغرب آليته الدبلوماسية في العمل، وبعد الاجتماع مع بايدن، سحبت الولايات المتحدة الاقتراح".

ما زالت ألمانيا تحاول إيجاد صفةٍ توافقيةٍ شبه مستحيلة بين أهداف مبطنة وأخرى معلنة

وجدت ألمانيا نفسها في دوامة الغضب المغربي، عندما تراكمت مواقفها السلبية إزاءه في قضيةٍ وجوديةٍ بالنسبة له، فقد ضاعفت من المواقف المناهضة، سواء عند دعوتها العاجلة إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن، والذي كانت تترأسه وقتها، للنظر في الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، بعد أسبوع فقط من اعتراف ترامب! أو في محاولة تغييب المغرب عن مؤتمر برلين عن ليبيا في يونيو/ حزيران 2021، أو في دعوتها الصريحة الاتحاد الأوروبي إلى تخفيض دعمه المغرب، وفرملة تقدّم هذا الأخير، خدمة مقدمة للجزائر وتونس، وهو ما كان قد دفع ملك المغرب إلى إدانة صريحة لهذا الموقف في خطاب "ثورة الملك والشعب" في 20 أغسطس/ آب من السنة، إذ قال "هناك تقارير تجاوزت كل الحدود. فبدل أن تدعو إلى دعم جهود المغرب، في توازن بين دول المنطقة، قدّمت توصيات بعرقلة مسيرته التنموية، بدعوى أنها تخلق اختلالا بين البلدان المغاربية". وما زالت ألمانيا تحاول إيجاد صفةٍ توافقيةٍ شبه مستحيلة بين أهداف مبطنة وأخرى معلنة، كما حدث في أسبوع واحد من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، هو الأسبوع الذي ودعناه، عندما زار سفيرها في مدريد مليلية المحتلة، في موقف غير ودًّي تجاه المغرب، في وقت أصدر فيه سفيرها في الرباط بيانا توضيحيا، ينفي فيه أية علاقة للاستخبارات الألمانية بالتقرير المشار إليه، كما أعقبه تقرير ثان صادر عن الجهة نفسها، مع التشديد على العلاقات الاستراتيجية للمغرب مع ألمانيا، ودعم هذه الأخيرة الاتفاقية الإستراتيجية بين المغرب.. وإسرائيل!
وفي محاولة لقراءةٍ بعديةٍ لثبات إدارة بايدن على الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، حاولت الخارجية الألمانية، وفي بيانٍ صادر خلال الأسبوع، أن تقوم "بثورة" في علاقتها مع دولةٍ اعتبرتها قابلة لـ "التسليم بالوصاية" من دولة عظمى مثلها. وعادت إلى تليين الموقف والدفاع عن القرار 2602 الذي رعته إدارة بادين والإشادة بعمل المغرب من أجل الاستقرار في المنطقة والمجهودات الكبيرة في الملف الليبي.

لا يمكن أن يخرج خيار الجزائر "عسكرة الديبلوماسية" عن أجواء التأزيم في غرب المتوسط، وفي شمال أفريقيا

أما الجزائر، الشقيق اللدود والعدو الثابت منذ قرابة نصف قرن، فقد كانت تطالب بعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، تاريخ التدخل المغربي لإجلاء العناصر الانفصالية المسلحة من معبر الكركرات الذي يربط المغرب بامتداده الأفريقي، والنقطة المحورية البرّية في التجارة العالمية، غير أن القرار الأممي المذكور أعلاه كرَّسها دولةً معنيةً مباشرة بالحل السياسي وبالموائد المستديرة في إدارة النزاع، في حين اختارت التصعيد في موقفها برفضها المشاركة السياسية، في الموائد السياسية، وتبعتها في ذلك جبهة بوليساريو التي دعت إلى تعليق وقف إطلاق النار الساري منذ 1991.
وهو موقفٌ وضعهما وجها لوجه أمام مجلس الأمن والعواصم صاحبة القرار في هذه القضية وفي غيرها.
لا يمكن أن يخرج خيار الجزائر "عسكرة الديبلوماسية" عن أجواء التأزيم في غرب المتوسط، وفي شمال أفريقيا، ولن يمر بدون آثار على أفريقيا جنوب الصحراء والساحل، كما أن السنة التي ودّعناها ختمتها الاتفاقية العسكرية والأمنية الاستراتيجية بين المغرب وإسرائيل، وقد رأت عواصم الجوار في ذلك تحوّلا لغير صالحها، فإسبانيا لم يغب عن وعيها أن هذا التوجّه قرار مفكر فيه بتقوية المغرب فاعلا إقليميا، وعنصر توازن في المنطقة وفي أفريقيا، بالنسبة للقوة العظمى. وقد كتبت الصحف تحلل ما يقع، وتعطي التفسير ذاته، وهو فشل الحكومة في التموقع الجديد في خريطة التحولات التي عرفتها المنطقة منذ تغريدة دونالد ترامب، في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020، وهو يغادر البيت الأبيض.

العنوان الرئيسي للسنة بالنسبة للمغرب هو عودة السيادة، وحدة قياس يتيمة في إدارة العلاقات بين المغرب وحلفائه وشركائه الاستراتيجيين

وقد ترى ألمانيا في تقوية المغرب بوصفه مركز قرار أساسيا في المنطقة نوعا من "تركيا الغربية"، تتولى ملفات الهجرة والاستخبارات الأمنية في محاربة الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة، إضافة إلى النجاح في تسيير الملف الليبي بعيدا عن عاصمتها ورعايتها، في وقتٍ تعتبر أن طرابلس بوابتها إلى القارة الأفريقية، عبر محور ليبيا الجزائر نيجيريا وجنوب أفريقيا.("مخطط مارشال" الألماني لفائدة أفريقيا).
كان العنوان الرئيسي للسنة بالنسبة للمغرب هو عودة السيادة، وحدة قياس يتيمة في إدارة العلاقات بين المغرب وحلفائه وشركائه الاستراتيجيين، فمن لا يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء لن يكون حليفا أو شريكا، كما صار المغرب يطمح، منذ العاشر من ديسمبر 2021 في خروج القوى والكتل الجيوستراتيجية، مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا المهيمنة على العمل الدولي من رمادية الموقف، بالاعتراف الصريح بهذه السيادة.
الواضح أن منطقتي غرب المتوسط وشمال أفريقيا، وغير بعيد عنهما الشرق الأوسط، قد دخلت منعطفا غير مسبوق، تحولت فيه معايير التحالفات وقوتها، كما تغيرت فيه عواطف وعقائد ديبلوماسية كثيرة. ولعل التحول الأبرز أن على دولتين، مثل ألمانيا وإسبانيا، الاعتراف بندّية لم يتقبلاها طوال الأزمة، (انظر مقالا في "العربي الجديد" للكاتب "هل يستطيع المغرب تدبير أزمتين في وقت واحد؟")، وقد بدأت تباشير ذلك في نهاية السنة الجارية، وهو موضوع آخر يحتاج ورقة أخرى.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.