يومٌ انتخابيٌّ طويل

يومٌ انتخابيٌّ طويل

31 مايو 2021
+ الخط -

سأسدل الستائر وأنام. جلبت كلّ ما أحتاجه من طعام البارحة. لن أخرج من البيت حتى انتهاء الانتخابات. لن أسافر في هذا اليوم. لقد سافرت إلى قريتي وسأنتخب هناك. سأغلق الهاتف و"النت" أيضاً. إن أتوا إلى المنزل سأقول إنّني "مكورن"، وسأضع الكمامة لحظة وصولهم. اتصل "البعثية" بأفرادٍ كثر، وقالوا إنّ الأسماء مسجّلة، ولا بدّ من الذهاب إلى خيمة الاحتفاء بالعرس الوطني، وغداً إلى مركز الانتخاب. لقد مرّت اللجنة البعثية بحيّنا ودوّنوا أرقام البطاقات. في اليوم التالي على الانتخابات، كان أكثر سؤالٍ تداوله السوريين: انتخبت؟ أي لماذا انتخبت؟
ساد خوفٌ كبير قبل أيام الانتخابات؛ فأغلبية السوريين يعانون الأمرّين، من الوقوف الطويل في الطوابير ومن انقطاع الكهرباء ورداءة الأجور وغياب العمل، وسؤالهم: ما فائدة الانتخابات، ألم نوعد بتحسّن الحياة قبل عشر سنوات، والآن نحن في أزمة حقيقية، وبلادنا محتلة، وعدة مدن خارج سيطرة النظام (إدلب، الرقة، دير الزور، الحسكة، ودرعا، وأرياف كثيرة في حلب)، أقصد مناطق واسعة منها، وعدا ذلك كله قُتل أولادنا وترملت نساؤنا وعطب مئات الألوف. أيّة انتخاباتٍ هذه؟ أهل يكفي أن يكون هناك استحقاق دستوري لتتم، وما قيمة هذا الدستور من أصله، والعالم يؤكّد عدم شرعيته، وضرورة صياغة دستور جديد، يتوافق مع ما آلت إليه أوضاع السوريين. هذا أيضاً غير قابل للتحقق، من دون توافق دولي وإقليمي وتمثيل المعارضة! إذاً لماذا الانتخابات من أصله، فليجدّد النظام البيعة وينتهي الأمر.

كان يوماً جيّداً للنوم، وسيّئاً للقلق والخوف من العواقب، كأن تُدق أبواب شققنا، أو أن نساق بالشوارع من المدجّجين بالسلاح

هذه كانت أحاديث السوريين، أحاديث أناسٍ غرقوا في بحار الفقر والتعاسة وانعدام الأمل وغياب العمل؛ وأكثر مشهدٍ قد يوضح حالة النفاق والكذب والخوف والشعور بالتفاهة ما ذاع صيته في وسائل التواصل، ويفيد بأنّ قوارب بحرية كانت تهتف للنظام في عرض البحر، وظلّت كذلك إلى أن غابت عن السواحل السورية، وطلبت اللجوء في قبرص! أهل أوضح من ذلك تعبيراً عن كارثية الأوضاع؛ جموع تحتفل بعرض البحر بـ"العرس الوطني" وبلحظةٍ تطلب اللجوء ببلد آخر تخلصاً من النظام الذي تغني وترقص وتدبك وترفع أعلامه عالياً، وتنخّ فيه من أجل تجديد البيعة!
كان يوماً جيّداً للنوم، وسيّئاً للقلق والخوف من العواقب، كأن تُدق أبواب شققنا، أو أن نساق بالشوارع من المدجّجين بالسلاح، أي عناصر أجهزة الأمن والمرتبطين بهم، لا سيما بعدما مدّدوا الانتخابات حتى الثانية عشرة ليلاً، وكان لا بدّ أن نخرج من منازلنا الرطبة والمعتمة والصغيرة، والتي هي معتقلاتٌ كذلك. الخوف ما زال جاثماً في الصدور من ملاحقة مرتكبي الكبيرة بعدم التصويت.

حالة الرفض الواسعة للانتخابات، قد تفجّر المجتمعات المحلية لاحقاً، وحينها لا تتغير حياتهم، كما هو متوقع، بل ستزداد سوءاً

التمديد كان بسبب اقتصار المنتخبين على موظفي الدولة أو المرتبطين بها بأواصر من علاقات الفساد والنهب والعمل كذلك، وجماعات المؤسسات الدينية ومحدثي النعمة والشبّيحة والدفاع الوطني وعناصر حزب البعث، وقرأنا عن مسؤولٍ في إحدى البلدات عن توزيع الخبز، يُنذر المعتمدين الذين يوزّعونه بأنّ كلّ واحد سيأتي ومعه 15 فرداً وإلّا سيخسر رخصة الخبز، وبالتالي اضطر هؤلاء للانتخاب مرات عدة، ليعوّضوا نقص أصوات الشعب المتخاذل والجالس في منازله أو ترك البلاد.
حالة الرفض الواسعة للانتخابات، قد تفجّر المجتمعات المحلية لاحقاً، وحينها لا تتغير حياتهم، كما هو متوقع، بل ستزداد سوءاً. النظام لا يهتم بكلّ تلك الأحوال، فقد بَذّرَ بشكلٍ كبير في الدعاية للانتخابات وفي الاحتفالات بها، وأطلق كمياتٍ مهولةً من الرصاص احتفاءً بالانتصار؛ الفعل الأخير يضفي غضباً جديداً في الصدور.
ليس هذا النظام قوياً، ولولا إيران ومليشياتها وروسيا لرَحلَ، وما يزيد الأمر عبثاً أن يستقدم النظام مراقبين من تلك الدول، وكأنَّها انتخاباتٌ بحق، وكأنّ تلك الدول ستعطيه شرعيةً لم تمنحه إياها منذ عشر سنوات. نعم لا ينشغل النظام بحاجات شعبه ولا بانتقادات الرافضين لاستمراريته، لكنّ ذلك يؤجّج الجمر في سورية. الأغلبية، التي فضّلت الجلوس في منازلها، لن تستطيع التزام الصمت إلى الأبد، فحاجاتها غير مؤمنة، والأموال التي تدفقت إليها في أثناء شهر رمضان انتهت، والنظام ذاته استفاد منها خير استفادة، حيث ساعدته في خفض قيمة الدولار، وتثبيت الأسعار بعض الوقت.

ليس بالانتخابات والرصاص يحيا الشعب، بل بتغيير النظام، وهذا ما ستقرّره الصفقة الدولية والإقليمية

لم تعترف الدول العظمى بالانتخابات ونتائجها، وشدّدت في بيانٍ لها على أنّ موقفها من سورية يمرّ عبر القرارات الدولية التي صدرت من أجل إنهاء المأساة السورية. بعد أسبوعين، سيلتقي الرئيس الروسي بوتين مع نظيره الأميركي بايدن، وستكون سورية من قضايا النقاش، كما كلّ قضايا الخلاف بينهما، وأمل السوريين أصبح معلقاً على تسويةٍ، يصل إليها الزعيمان. طبعاً قد لا تتحقق تلك الأمنية؛ فدائرة الخلافات بين الدولتين كبيرة، ولم تتوقف روسيا عن محاولة شرعنة النظام، وجديدها الانتخابات هذه، لكن كذلك هناك إمكانية للنقاش الإيجابي بخصوص سورية بين الرجلين، إذ ترسّخت مناطق النفوذ، وتوقفت الحروب، ولا بد من نهب البلاد. هذا ليس ضرباً في الرمل. لا، فسورية مُسلّمةً تقريباً من الأميركيين للروس، لكنّ الأخيرين هم الرافضون، ويريدون حيازة سورية "غصباً" عن الإرادة الأميركية، وهذا محال بالطبع.
كان يوماً انتخابياً طويلاً بحق؛ انتهى منه السوريون، وكأنّهم في جنازة قريبٍ. الآن، سيعودون إلى حياة الطوابير "والنق والسق" والمِعَد الفارغة. هذه ليست النهاية كما أوضحت، وإذا ظلَّ النظام يأمل بأموالٍ ستأتيه من إيران، فهذا يجانبه الصواب، ولا من روسيا، الشهيرة ببخلها؛ وليست أشهر السنة كلّها رمضان. وبالتالي، قد تتوسع الاحتجاجات التي تطوّرت أخيراً في درعا، وقد نشهد شبيهاً لها في السويداء، وكلّ المدن السورية مرشّحة للانفجارات الشعبية. إذاً، وعلى العكس من وهم النظام بالأبد عبر الانتخابات، فقد تكون هي بالذات، وبسبب انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعدم تغيرها وتعقدها سبباً في الوصول إلى صفقةٍ تطوي صفحة النظام، بين بايدن وبوتين؛ فهل يفعلانها أم يؤجلان ذلك إلى موعدٍ لاحق.
ليس بالانتخابات والرصاص يحيا الشعب، بل بتغيير النظام، وهذا ما ستقرّره الصفقة الدولية والإقليمية.