هل تنافس الصين الهيمنة العسكرية الأميركية؟

هل تنافس الصين الهيمنة العسكرية الأميركية؟

23 يوليو 2021
+ الخط -

توقف الكاتب في مقاله الأسبوع الماضي (16/7/2021) في "العربي الجديد" عند سؤال مفاده ما إذا كان في مقدور الصين منافسة الولايات المتحدة على الهيمنة العسكرية، عالمياً، بعد عقدين ونصف العقد من الزمان، كما يتوقع بعض الخبراء، آخذين في الاعتبار مستوى ووتيرة تطور كل قوة من القوتين راهناً. وإذا كانت المعطيات القائمة تتنبأ بتجاوز الصين الولايات المتحدة اقتصادياً، بعد عقد واحد، على الرغم من الأخذ والرد في هذا السياق، وهو ما حاول مقال الأسبوع الماضي تسليط بعض الضوء عليه، فإن الهيمنة العسكرية الأميركية تبدو مسألة أكثر تعقيداً أمام بكين. وقبل الولوج إلى الموضوع ببعض إيجاز، من الضروري بمكان التنبيه هنا إلى أن أي تحليل إنما يستند إلى المعطيات والحقائق القائمة وينطلق منها. بمعنى أن تغييراً في المدخلات سيفضي إلى تغيير في المخرجات. ومن ثمَّ، إذا استجدّت معطياتٌ جديدةٌ أميركياً أو صينياً، سلباً أو إيجاباً، في سياقاتهما الداخلية، أو الجيوسياسية، أو الجيوستراتيجية، فإن المخرجات، بلا أدنى شك، ستتغير.

بداية، لا يوجد خلاف في أن الولايات المتحدة هي الدولة الأعظم عسكرياً على وجه البسيطة اليوم. وعندما نتحدّث عن القوة العسكرية، ينبغي أن ندرك أن الحديث هنا لا يقتصر على القوة النووية فحسب، ولكنه لا يستثنيها أيضاً، إذ إنها تشمل القوة العسكرية التقليدية من أسلحة برّية وجوية وبحرية واستخباراتية وسيبرانية. وإذا كان من المجزوم به أن الأسلحة النووية هي أسلحة ردع لا أسلحة حرب، إذ إنها تضمن الدمار الشامل المتبادل بين المتحاربين، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن الولايات المتحدة تتفوّق على كل أندادها وخصومها النوويين في قدراتها في هذا المجال، كمّاً ونوعاً. أيضاً، لدى واشنطن أفضليةٌ مطلقةٌ في عناصر الاستراتيجية النووية، المعروفة بــ "Nuclear triad"، أو "الثالوث النووي"، والذي يتيح القدرة للدول النووية الكبرى في توزيع مخزونها من هذه الأسلحة، والقيام بردٍّ نووي انتقامي، سواء برّاً أم بحراً أم جواً، في حال تعرّضت لهجوم نووي مفاجئ.

الولايات المتحدة تملك من عناصر القوة العسكرية مجتمعة ما لا تملكه أي دولة أخرى

بعيداً عن الخوض في كل مسألة والتفصيل فيها، فإن الولايات المتحدة تملك من عناصر القوة العسكرية مجتمعة ما لا تملكه أي دولة أخرى. وقد تجاوزت ميزانية الدفاع الأميركية المباشرة للعام الحالي 703 مليارات دولار، وهي الأعلى عالمياً، وطلبت إدارة الرئيس جو بايدن زيادتها إلى 715 مليار دولار للسنة المالية 2022. وإذا ما أخذنا ميزانية الدفاع الأميركية للعام الحالي وحدة قياس، فإنها تكون أكبر من ميزانيات الدفاع للدول التسع التالية لها مجتمعة: الصين، الهند، روسيا، بريطانيا، السعودية، ألمانيا، فرنسا، اليابان، وكوريا الجنوبية. هذه ليست سَنَةً استثنائية، بل الأمر كذلك منذ عقود طويلة. ومع ذلك، لا يُشبع هذا نَهَمَ المؤسسة العسكرية الأميركية التي لا تكف عن التفصيل، أو حتى المبالغة، في التحدّيات والتهديدات التي تواجه هيمنتها عالمياً، وذلك من أجل تسمين ميزانيتها أكثر، ومراكمة مزيد من القوة الصلبة، على حساب القوة الناعمة التي تحرص وزارات أخرى، كالخارجية، مثلاً، على الاستثمار فيها. ومن أفضل من الصين اليوم كـ"بعبع" لترهيب المواطنين الأميركيين وصانعي القرار، على حد سواء، من المارد الهائل الذي بدأ ينفض غبار عقودٍ من السبات متأهباً لمنافسة الولايات المتحدة أو إطاحتها عن عرش العالم؟

على سبيل المثال، وخلال زيارة له، في مارس/ آذار الماضي، إلى كل من اليابان وكوريا الجنوبية، اعتبر وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن الصين تمثل "تهديداً متنامياً". وبالتالي، يتمثل هدف الولايات المتحدة في "ضمان أن لدينا القدرات والخطط والمفاهيم العملياتية لنكون قادرين على تقديم ردع موثوق للصين أو أي طرف آخر يفكر في مواجهة الولايات المتحدة." وفي الشهر نفسه، حذّر القائد السابق للقوات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأدميرال فيليب ديفيدسون، في جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، من أن الصين تزيد إنفاقها الدفاعي، وقد تغزو تايوان خلال ست سنوات. أما المرشّح لخلافته، حينها، الأدميرال جون أكويلينو، فقد طالب بزيادة قدرات الردع الأميركية في المحيط الهادئ، مشيرًا إلى أن ما قامت به واشنطن لردع الصين، بما في ذلك إرسال بوارج حربية وحاملات طائرات، عبر مضيق تايوان في بحر الصين الجنوبي، لم يكن فعالا. كما أخبر أكويلينو اللجنة أن الوجود العسكري الصيني في تايوان سيمنح بكين نفوذاً على أكثر من ثلثي التجارة العالمية التي تمر عبر الممرات البحرية بالقرب من الجزيرة. وطالب مجلس الشيوخ بتمويل مبادرة الردع الأميركية في المحيط الهادئ بالكامل، والتي تشمل قائمةً بأسلحة جديدة وإجراءات دفاعية تصل قيمتها إلى 4.6 مليارات دولار.

تبني بكين قوتها الحربية لتسيطر على منطقة تقع في فضائها الجيواستراتيجي، وتحديداً بحر الصين الجنوبي، على عكس الولايات المتحدة البعيدة

المفارقة هنا أن الصين لا تشكل تهديداً عسكرياً حقيقياً للولايات المتحدة، اللهم إلا إذا كان الحديث عن هجوم نووي، وهو ما سيعني دمار الصين أيضاً، وبشكل أكثر كارثية، كما سلف القول. وكما يشرح بعض الخبراء، تملك الولايات المتحدة ترسانة نووية تفوق نظيرتها الصينية بعشرين مرة. ويفصل بين البلدين المحيط الهادئ، وإلى اليوم لا تبدي بكين أطماعاً خارج فضائها الجيواستراتيجي، بل ولا تملك القدرة على ذلك أصلاً. ومع أن الاستثمارات العسكرية الصينية في قوتها البحرية أكبر وأخطر من أن تهملها واشنطن، إلا أنه، وحسب بعض الخبراء، ثمَّة مبالغات أميركية في هذا الصدد، وذلك بغرض ابتزاز مزيد من الأموال. واستناداً إلى تقرير صادر عن مكتب المخابرات البحرية الأميركية، نهاية العام الماضي، فإن البحرية العسكرية الصينية كان لديها 360 قطعة بحرية مقارنة بحوالي 300 لدى البحرية الأميركية، ما يعني أن لدى الصين أكبر قوة بحرية عالمية اليوم. وحسب التقرير نفسه، سيكون لدى الصين في عام 400 قطعة قتالية بحرية في العام 2025، في حين أن الولايات المتحدة قد يكون لديها 355 حينها. كما تعكف الصين على بناء غواصات قادرة على إطلاق صواريخ نووية، وحاملات طائرات، وطائرات مقاتلة، وسفن هجومية برمائية، وكاسحات جليد.

اللافت هنا أن الولايات المتحدة تبقى متفوّقة بفارق كبير على القوة البحرية للصين من حيث نوعية (ومستوى) قطعها البحرية وأسلحتها. وكما يشرح الخبير الاستراتيجي الأميركي، فريد زكريا، فإن الولايات المتحدة تملك 11 حاملة طائرات نووية مقارنة بحاملتي طائرات صينية أقل تقدماً بكثير. أيضاً، لدى واشنطن أكثر من ألفي مقاتلة حربية حديثة، مقارنة بـ 600 عند بكين. كما أن للولايات المتحدة 800 قاعدة عسكرية خارج حدودها حول العالم، في حين لا يوجد لدى الصين إلا ثلاث. وكنا أشرنا من قبل إلى المقارنات المعقودة بين الأسلحة النووية والميزانيتين العسكريتين لدى الدولتين، حيث تبلغ الميزانية الصينية ثلث نظيرتها الأميركية، مع ضرورة عدم إغفال أن تكلفة الصناعات الصينية أقل بكثير إذا ما قورنت بتكلفة الصناعات الأميركية.

الصين لا تشكل تهديداً عسكرياً حقيقياً للولايات المتحدة، اللهم إلا إذا كان الحديث عن هجوم نووي، ما سيعني دمار الصين أيضاً

على أي حال، الأمر فيه تفاصيل كثيرة، لا يتسع لها المجال هنا، إلا أن لدى واشنطن، هي الأخرى، نقاط ضعف في قوتها. أولاً، هي مستنزفة في صراعاتٍ في ساحات دولية كثيرة، وحجم التزاماتها العالمية كبير، وهذا جزءٌ من حسابات إدارة بايدن في محاولات التخفف من أعباء ثانوية، كأفغانستان وإيران. في المقابل، تبني بكين قوتها الحربية لتسيطر على منطقة تقع في فضائها الجيواستراتيجي، وتحديداً بحر الصين الجنوبي، على عكس الولايات المتحدة البعيدة. وإذا كانت ستقوم حرب بين الدولتين فإن مسرحها سيكون بحر الصين الجنوبي، سواء بسبب تايوان أم الفيليبين، وترتبط هذه الأخيرة بمعاهدة دفاعية مع واشنطن. وحسب مناورات افتراضية أجرتها المؤسسة العسكرية الأميركية، ستهزم الولايات المتحدة في حرب مع الصين في بحر الصين الجنوبي، بسبب بعدها عن خطوط إمداداتها الاستراتيجية. إلا أن ما قد يعوّض نقاط الضعف الأميركية تمتّعها بقواعد وحلفاء إقليميين في المنطقة، كأستراليا والفيليبين وفيتنام وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية والهند، وجميعها يملك قوة لا يستهان بها. ثانياً، ترتب على التصعيد الأميركي ضد روسيا والصين في آن واحد تقاربهما، وهو ما يشكّل معضلة استراتيجية للولايات المتحدة، فالحديث هنا عن قوتين عظميين. إلا أن تحالفاً شاملاً بين موسكو وبكين يبقى مستبعداً لأسباب كثيرة، ليس أقلها التنافس بين الدولتين المتجاورتين، وخشية روسيا من أن تتحوّل إلى شريك تابع للصين، على أساس حجم الاقتصاد الروسي الهامشي إذا ما قورن بنظيره الصيني. أيضاً، هناك حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تستند إليه واشنطن في مواجهة الطرفين.

باختصار، وكما خلص مقال الأسبوع الماضي إلى صعوبة التنبؤ بمصير المنافسة الاقتصادية بين العملاقين، فإن من الصعب التنبؤ بمصير المنافسة العسكرية بينهما، فالمتغيرات كثيرة، مع بقاء الأفضلية لواشنطن ضمن معطيات المدى المنظور. أما في ما يتعلق بسؤال أي الدولتين أفضل للعالم، بما في ذلك لنا نحن العرب، أن تسود، فقد حاول الإجابة عنه مقال الثالث من أبريل/ نيسان، 2020، بعنوان " في المفاضلة بين الصين وأميركا".