نقاشات غير تاريخية عن أحداث فرنسا

نقاشات غير تاريخية عن أحداث فرنسا

31 أكتوبر 2020
+ الخط -

من أسوأ أنواع التناول الشعبوي للقضايا العامة تناولها حدثا لحظيا مفصولا تماما عما قبلها من عمق تاريخي، وهو ما سقط به، عن جهل أو عمد، معلقون كثيرون على أحداث فرنسا على طرفي النقيض. من جانب بلادنا، شهدنا قطاعا ضخما من المعلقين ينطلقون من إنكار حدوث الجرائم الإرهابية أصلا، كلها أفعال مخابراتية فرنسية، وهذه الكرّة أطلقها أشخاص بوزن الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، علي القرة داغي، حيث كتب مقالا مليئا بطرح الأسئلة المشكّكة، ليصل للقول بأن حادث قتل المعلم "مدبر ومدبر ومدبر"! ثم قطاع ثان يؤكد أن ما فعله الشيشاني المعتوه هو "حكم الإسلام". ومرة أخرى لا نتحدث فقط عن عامة ودهماء، بل عن شيوخ ودارسي علوم دينية منهم من رد بحدّة ضد بيان مبادرة "أزاهرة يستنيرون".

ينسى هؤلاء جميعا أو يتناسون الجناية الأكبر لهذه التيارات، منذ الهجمات في مصر في الثمانينيات والتسعينيات ضد الأقباط وغيرهم، ومرورا بفصول دامية تمتد من أفغانستان إلى الصومال، حتى جديد المحطات الحديثة، حيث قتل الدواعش وأشباههم ألوفا مؤلفة من إخوانهم المسلمين السوريين والعراقيين، بل تبادل السلفيون الجهاديون "إخوة المنهج" من "داعش" وجبهة النصرة التكفير والقتل.

في كتاب "كفّوا الأيادي عن بيعة البغدادي"، يفصل عضو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) السابق، أبو محمد الهاشمي، ما كان ينقمه على خليفته، وذلك من المربع نفسه بوصفه سلفيا جهاديا. من أبرز النقاط، التوسع في فتاوى "القتل سياسة" بالمصطلح الشرعي، والتي شملت قتل كثيرين من أعضاء التنظيم أنفسهم، وأيضاً التوسع الهائل في تكفير عامة المسلمين. وتشمل الأمثلة إفتاء التنظيم لفرعه في الفيليبين بارتداد أهل مدينة مراوي بالكامل، وهم نحو مائتي ألف نسمة، وكذلك دعم كل الجرائم الدموية التي ارتكبها تنظيم بوكو حرام في نيجيريا ضد المسلمين. وقُتل نحو ثلاثمائة مصري داخل مسجد في سيناء في مذبحة الروضة، تحت زعم أنهم مرتدّون لأنهم صوفيون، فما بالنا من الموقف نحو غير المسلمين... هذه ليست أعمالا فردية معزولة، بل تنظيمات مؤدلجة، انتمى لها مئات آلاف البشر، وحظيت بدعم ملايين يمكن أن ترى نماذج منهم في التعليقات على أي صفحة إخبارية. 

على الجانب المقابل، يتحدّث الرئيس الفرنسي، ماكرون، واليمين الأوروبي وتنويريون عرب أيضا، كأن التاريخ بدأ هنا والآن فجأة. ثمّة خفة بالغة في التعامل مع حساسيات مليار ونصف المليار مسلم، على الرغم من أنه بالفعل حدثت أمثال هذه الواقعة سابقا في عدة دول، أبرزها الرسوم الدنماركية. وقدّمت الحكومة الدنماركية وقتها نموذجا مختلفا تماما للتعامل الحكيم. من الطبيعي ألا تتخذ الحكومات قرارا بإغلاق المجلة أو سجن الرسام، لكن بإمكانها تقديم خطابٍ يؤكد أنه لا يشجع هذه الأفعال، وأن وجودها هو على هامش حرية التعبير، وليس كأنها جوهر تعريف حرية التعبير.

وعلى صعيد آخر، يتم إغفال التراث الاستعماري الفرنسي الراسخ في المخيلة العربية. وهنا كان بيان وزارة الخارجية الفرنسية بدوره كارثيا، سواء من حيث توجيه الأوامر الاستعلائية إلى وقف المقاطعة "فورا"، أو استخدام ألفاظ استفزازية، مثل "الحاقدين". يغفل أيضا هذا الخطاب سياق تكوين هذا التيار في الغرب، فملايين المسلمين الذين هاجروا إلى الدول الأوروبية، ومنها فرنسا، منذ الأربعينيات، للمساهمة في إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، لم تصدر منهم هذه الأفعال والأفكار مطلقا.

حدث التحول تدريجيا منذ السبعينيات، وكانت مرحلة حرب أفغانستان النقطة الفاصلة، حيث تم اتخاذ قرار استراتيجي من الأجهزة الأمنية الغربية باستخدام الإسلام الجهادي أداةً ضد الشيوعيين، وهكذا تدفق المال السعودي لدعم الوهابية، وكان الشيوخ المؤسسون يمرحون في أرجاء القارة، وظهر مصطلح "لندن ستان". حتى وصلنا إلى جذور النشأة الأخيرة لـ"داعش" أخيرا، وجوهرها الغزو الأميركي للعراق، ثم التعامل الغربي المتخبط، حين تخلى أوباما عن "الصحوات" بعد دورهم الهائل في هزيمة القاعدة، ليصبحوا لقمةً لحكومة المالكي الشيعية الطائفية، وأخيرا تم التخلي عن المعارضة السورية المعتدلة في 2011 و2012، وهو ما فتح المجال لاحقا لطغيان المتطرفين.

الحيل النفسية الدفاعية لا تنتهي، وكذلك التوظيف السياسي، لكن لا حلول بدون إدارة نقاشاتٍ تطرح الأسئلة الصحيحة والواقعية.