نزاع السلطات في تونس وخيارات الحل

نزاع السلطات في تونس وخيارات الحل

16 فبراير 2021
+ الخط -

على وقع الأزمة الدستورية المعقدة التي تعيشها تونس، بعد رفض الرئيس قيس سعيّد استقبال الوزراء الجدد في التعديل الحكومي لأداء اليمين الدستورية، بعد نيلهم الثقة من البرلمان، وما خلّفه ذلك من أزمة سياسية عمّقت الخلافات بين الرئاسات الثلاث، تبقى الرهانات للخروج من هذه الأزمة مفتوحةً على طروحات وخيارات معقدة بحساباتها ونتائجها، وسط سجالات حادّة تتباين فيها المواقف والآراء، مع تمسّك كل طرفٍ من أطراف الصراع بمواقفه وتمترسه خلف جدار الصلاحيات الدستورية.
تدور الخيارات الممكنة لحل الأزمة في فلك ثلاثة طروحات أساسية، يمكن الحديث عنها باستفاضة، منها طرح واحد مقدّم من الرئيس قيس سعيّد، وآخران تتحدث عنهما أطراف تونسية خرى. يلقى طرح الرئيس التونسي قبولاً وتأييداً من أطراف معارضة للحكومة وللكتل النيابية الداعمة لها، ويتضمن خيارين: يطالب الأول بضرورة استبعاد الوزراء الذين يقول إنه تدور حولهم شبهات فساد أو تضارب مصالح، وهذا يعتبر من أسهل الخيارات وأعقلها لحلحلة الأزمة، لكنه لا ينهي الأزمة بشكلٍ كامل، على اعتبار أن الرئيس يعتبر المشكلة الأساسية تكمن في التعديل الوزاري كله، ويصفه باللاقانوني، كونه أحدث تغييراً ليس في تركيبة الحكومة فقط، وإنما في طبيعتها (من التكنوقراط إلى الحزبية). وبالتالي، لن يحل هذا الخيار الأزمة، على اعتبار أن رئيس الجمهورية يعتبر أنّ إجراءات التعديل الوزاري التي اتبعها رئيس الحكومة، هشام المشيشي، مخالفة لأحكام الدستور، وهو ما يجعله يرفض كلياً قبول هذا التعديل. ويطالب الخيار الثاني باستقالة الحكومة، وهنا يمكن الحديث عن ثلاثة احتمالات: استقالة حكومة المشيشي طوعاً، سحب الثقة منها في البرلمان، إسقاطها من خلال الشارع والمظاهرات. ويعتبر هذا الخيار من أصعب الخيارات المطروحة على طاولة حل الأزمة السياسية وأشدها تعقيدا، لأسباب عديدة، أهمها أن كلاً من الرئيس ورئيس الحكومة باتا يعتبران أن الأزمة الحالية قضية حياة أو موت. ولذا ينطلقان في طروحاتهما وتصريحاتهما من مبدأ إثبات قوتهما، لا من منطق التعقل السياسي. لذا من المستبعد أن يُقدم المشيشي استقالته، خصوصاً أن هذا الطرح مرفوض من "الحزام البرلماني" للحكومة، على اعتبار أن استقالة الحكومة ستضع الأغلبية البرلمانية في مواجهة سيناريو أحقية الرئيس قيس سعيد في ترشيح رئيس وزراء جديد بديلاً للمشيشي، كما حدث مع حكومة إلياس الفخفاخ سابقاً.

إسقاط حكومة المشيشي من خلال الشارع والمظاهرات،  من أخطر الاحتمالات، لما قد يترتب عليه من مشكلات كثيرة قد تعيد تونس إلى عام 2013

أما احتمال نجاح الرئيس قيس سعيد والكتل النيابية المساندة له في سحب الثقة من الحكومة عن طريق البرلمان فضعيف جداً، إن لم يكن مستحيلا في ظل التحالفات الحالية، على اعتبار أنّ حكومة المشيشي مدعومة من كتل برلمانية "وازنة" أو ما يُسمى "الحزام البرلماني" لها، مؤلف من 120 من أصل 217 نائبا موزعين على كتل حركة النهضة (54 نائباً)، وقلب تونس (29 نائباً)، والإصلاح (18 نائباً)، وتحيا تونس (10 نواب)، والكتلة الوطنية (9 نواب)، وهذا "الحزام" قادر، في حال طرح الثقة بحكومة المشيشي في البرلمان، أن يعرقل هذا الطرح، على اعتبار أن طرح الثقة يحتاج إلى الأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان، أي 109 أصوات، وهذه غير متوفرة للرئيس والكتل التي تدعمه.
يبقى الاحتمال الثالث، إسقاط حكومة المشيشي من خلال الشارع والمظاهرات، وهو من أخطر الاحتمالات، لما قد يترتب عليه من مشكلات كثيرة قد تعيد تونس إلى عام 2013، والوصول إلى مرحلة الشارع ضد الشارع، خصوصاً أن الشارع التونسي منقسم ومحتقن، الأمر الذي قد يقود إلى اشتباكات وصدام فيه، قد يدفع نحو فوضى ونقطة اللاعودة.
وبالتالي، لا يمكن تطبيق الطرح الأول الذي يجري تداوله حلا للأزمة السياسية لا بالشكل الذي يجري الحديث عنه تماماً، إلا إذا تم تقديم تنازلات من كلا الطرفين، بحيث يقبل الرئيس بالحل الذي يقول باستبدال الأسماء المرفوضين منه بأخرى جديدة، والذهاب باتجاه أداء القسم الدستوري للوزراء بعد نيلهم ثقة البرلمان، أو الذهاب، كما تطرح بعض أحزاب داعمة للحكومة، نحو تشكيل حكومة مصغرة برئاسة المشيشي، وإلحاق الوزراء المقترحين مستشارين في رئاسة الحكومة. ويشكل هذا الحل مخرجاً لأزمة اليمين المرتبطة بأسماء هؤلاء الوزراء غير المقبولين من الرئيس.

يحتاج أي طرح لإجراءات عزل الرئيس في البرلمان موافقة أغلبية الثلثين في البرلمان قبل الإحالة إلى المحكمة الدستورية

الطرح الثاني، عزل الرئيس التونسي بعد طرح الثقة به في البرلمان، تتداوله أطراف معارضة للرجل، ترى أنّ رفضه أداء الوزراء الجدد اليمين الدستورية خطأً جسيم، يستوجب التحرّك لعزله، وفقاً للمادة 88 من الدستور التي تنص على عزل الرئيس في حال ارتكابه "الخطأ الجسيم". ويعتبر هذا الطرح من الطروحات المعقدة وغير القابلة للتحقيق، لاعتبارات دستورية وسياسية، فدستورياً لا يمكن مساءلة الرئيس وعزله إلا من المحكمة الدستورية، وهذه معطلة منذ سنوات، ولا وجود لها بسبب التجاذبات السياسية. أما سياسياً، فيحتاج أي طرح لإجراءات عزل الرئيس في البرلمان موافقة أغلبية الثلثين في البرلمان (145 صوتاً) قبل الإحالة إلى المحكمة الدستورية. وهذه الأغلبية غير متوفرة للكتل النيابية التي تطرح هذا الطرح. وبالتالي، الكتل النيابية التي تؤيد الرئيس قيس سعيد قادرة على إفشال محاولة طرح التصويت على إجراءات العزل في البرلمان.
يدعو الطرح الثالث إلى الجلوس إلى طاولة الحوار وتقديم التنازلات والتعامل مع الخلافات في إطار مؤسساتي، بعيداً عن الشخصنة، ويعتبر هذا الطرح الأنسب للحل السياسي للأزمة الراهنة، فتغليب منطق الحوار هو الأفضل والأنجح لفض هذه الخلافات، في حين أن استمرار التشبث بالمواقف السياسية على حساب المصلحة العامة قد يدفع إلى تعطيل مؤسسات الدولة، وبالتالي تعميق الأزمة واستفحالها.
في المحصلة، يمكن القول إنّه، وبغض النظر عن الخيارات المطروحة، من المهم جداً في ظل الديمقراطية الناشئة في تونس، ألا يبادر أحد الأطراف في السلطة إلى إحداث أي سابقة قانونية، أو ممارسة تخرج عن الإطار الدستوري، تفادياً لاعتماد مثل هذه السوابق أو الممارسات في أي خلافاتٍ مستقبلية.