نزارباييف والسيطرة الروسية على كازاخستان

نزارباييف والسيطرة الروسية على كازاخستان

10 يناير 2022
+ الخط -

اذهب خارجاً أيّها العجوز نزارباييف. ماذا استفدنا من ثلاثين عاماً من الحكم... هذان من شعارات رفعها المحتجون في كازاخستان؛ وهناك مطالب عامة، تتحدّد بتغييرٍ حقيقي للحكومة، انتخابات مباشرة لحكام المقاطعات، عودة إلى دستور 1993 الذي حَدّد الفترات الرئاسية، وسلطات الرئيس، وعدم اضطهاد الناشطين المدنيين، والسماح بالحريات السياسية. لم تصل هذه المطالب إلى التغيير السياسي الكامل، لكنّها تشير إلى أنّ التذمر كبيرٌ وقديم، وليس جديداً، ويتعلق بارتفاع أسعار الغاز المُسال، والمستخدم بكثرة في هذا البلد فقط. انعكس الارتفاع هذا ازدياداً مباشراً على أسعار كلّ السلع، وعلى القوّة الشرائية، فعمّت الاحتجاجات الشعبية البلاد.
تعدّ كازخستان حكراً على نور سلطان نزارباييف وأسرته وأعوانه. عدا ذلك، استطاع "أبو الأمة" تجنيب بلاده أزمات إقليمية ودولية كثيرة طوال سنوات رئاسته، من 1991 إلى 2019. فهو لم يخرج من الحكم من أجل الديمقراطية، أو نهضة بلاده، وقد فاجأ شعبه حينذاك بقرار الاستقالة، فدَفع رَجُله، قاسم توكاييف إلى الرئاسة، وهو ما يُذكِّر بميدفيديف وبوتين، إذ تبادلا الحكم؛ فنزارباييف أصبح طاعناً في السن (81 عاماً)، واحتفظ لنفسه بمناصبٍ عدّة: رئيس مجلس الأمن، ورئيس حزب نور الوطن، ورئيس الجمعية الوطنية للأعراق، ومنصب دائم في المجلس الدستوري؛ هو بذلك يشبه أيضاً بينوشيه الذي خرج من الحكم في تشيلي في 1989، لكنّه ظلَّ على رأس القوات المسلحة حتى 1998. يريد نزارباييف انتقالاً سلساً لخليفته، توكاييف، وتأمين حصانة دائمة له ولأتباعه، سيما أنّ تهماً بالفساد تلاحقه، كما أنه يريد الاحتفاظ بمناصب كبرى في الدولة.

مشكلة كازاخستان في الفساد وغياب المساواة الاقتصادية، وكذلك في النظام السياسي السلطوي، وغياب أيّة أشكال للحريات

لم ينفعه ذكاؤه البيروقراطي، وهو القادم من مؤسسات الاتحاد السوفييتي السابق، وقد كان رئيس وزراء كازاخستان في 1984، وتبوأ مناصب كبيرة في الحزب الشيوعي في هذا البلد. ومع أوّل احتجاجاتٍ قوية، وقد بدأت قبل أيام، أُطيح؛ فأعلن الرئيس الحالي تَسلّم منصب نزارباييف، رئيس الأمن، وفرض حالة الطوارئ، وطرد أفراداً من أسرة نزارباييف من مناصب عمومية، وأقال الحكومة. إذاً، أصبحت أحداث هذا البلد تتطلب رئيساً حقيقيّاً، وليس صوريّاً، وبالتالي "الاسترخاء السياسي" انتهى، وقوّة الاحتجاجات، وشمولها أغلبية البلاد، اضطرت الرئيس، للاستعانة بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، المهيمنة عليها روسيا للتدخل المباشر، وهذا ما حدث، وهذا يوضح ضعف النظام السياسي، وقوّة الاحتجاجات، والرفض الروسي الحاسم لعدم الاستقرار، سيما أن الوضع على شفا حربٍ في أوكرانيا، وهشّ في بيلاروسيا، وهذه الدول الأقرب لروسيا، وبسببها وقعت بعض العقوبات على موسكو، وهي تعدّ ضمن التحالف الأوراسي، المواجه لحلف الناتو، وأميركا، وأوروبا. 
كازاخستان دولة ثريّة بالموارد الباطنية، نفط، غاز، نحاس، زنك، مغنيزيوم، وسواه كثير، واستطاع نزارباييف تحقيق نمو اقتصادي كبير حتى 2017، وطوّر بنيتها التحتية بشكل كبير، وهي تقيم معاهدات كبيرة مع تركيا وأميركا وأوروبا، وتعدُّ دولة إنتاج وعبور للنفط والغاز إلى أوروبا. مشكلة هذا البلد في الفساد وغياب المساواة الاقتصادية، وكذلك في النظام السياسي السلطوي، وغياب أيّة أشكال للحريات، وهذا دفع السكان الذين يراقبون العالم، وما يحدث في أوكرانيا وبيلاروسيا وحتى في الداخل الروسي المتأزم إلى الاحتجاجات القوية.

تمّ تمجيد نزارباييف بإطلاق اسمه على العاصمة، وأعطي لقب "أبو الأمة" وشيدت له التماثيل التي حطم بعضها المحتجون

العنف هو الأداة الوحيدة الحقيقية في ممارسة الحكم، وتراجع نظام كازاخستان عن أسعار الوقود الجديدة، وإقالة الحكومة، وإبعاد نزارباييف، إجراءات ليست سوى أقراص باندول لتخفيف وجع الرأس، وذلك كله لن يساهم في إنهاء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لقد أشرت لبعض المطالب العامة أعلاه، وهناك سخرية يتناقلها أهل تلك البلاد، وكانت ردّاً على وعود نزارباييف في الإصلاح الاقتصادي، إذ كان يردّد أن هدفه جعل كازاخستان مثل كوريا الجنوبية، فكان الرد الشعبي إنهم يرون بلادهم تتجه إلى أن تصبح كوريا الشمالية، إذ تمّ تمجيد نزارباييف بإطلاق اسمه على العاصمة، وأعطي لقب "أبو الأمة" وشيدت له التماثيل التي حطم بعضها المحتجون، وحسناً فعلوا. استخدام العنف والاستعانة بروسيا فوراً يؤكدان أنّ روسيا التي تدخلت بطلبٍ من الرئيس توكاييف لن تسمح باستخدام كازاخستان ورقة جديدة للتفاوض مع أميركا والاتحاد الأوروبي، ولن تسمح بظهورها خاصرة ضعيفة لها، إذ لها حدود واسعة معها، وكذلك سيكون السماح بتطور الاحتجاجات في هذا البلد بداية احتجاجات كبيرة في دول "إسلامية" كثيرة تحيط بروسيا وتابعة لها، وتعاني بكثرة من الهيمنة الروسية، وهذا ستستغله أميركا والاتحاد الأوروبي بكل تأكيد. 
روسيا المُتعبة في أوكرانيا وسورية، ومن العقوبات الدولية عليها، والمرتبكة من التنافس التركي لها في آسيا الوسطى، وهناك علاقات قوية بين تركيا وكازاخستان، وتشتركان في العرق واللغة والتاريخ، تغزو الآن كازاخستان، ولن تتسامح أبداً مع استقلالٍ أكبر أو تحوّلٍ ديمقراطي حقيقي.

تتجه روسيا نحو استعادة مجد الاتحاد السوفييتي، ولم تهضم كلّ أشكال الثورات، الملوّنة، والبرتقالية، في الجمهوريات التي كانت ضمن ذلك الاتحاد

فتحت كازاخستان الغنية بالنفط والثروات الباطنية، ومنذ عقود، بلادها للشركات الأميركية والأوروبية للاستثمار، وهناك علاقات قوية مع تركيا، كما أشرت. روسيا غير سعيدة بكل تلك العلاقات، فهي تتجه نحو استعادة مجد الاتحاد السوفييتي، ولم تهضم كلّ أشكال الثورات، الملوّنة، والبرتقالية، في الجمهوريات التي كانت ضمن ذلك الاتحاد، ومنذ 1991، وبالتالي ستعمل على تعزيز نظام قاسم توكاييف، مع تغييرات تشبه التي ما قام بها الرئيس الحالي، وليس أكثر. ما تراه روسيا بأم العين في أوكرانيا من معارضة قويّة للتدخل الروسي لن تسمح به في هذا البلد، ولهذا كان التدخل مباشرة. 
علينا هنا التدقيق في أنّ كل الدول المشمولة بمعاهدة الأمن الجماعي سارعت لإنقاذ نظام نزارباييف/ توكاييف، وإرسال الجنود، وهذا يحدث أوّل مرّة منذ إعلان المعاهدة في 1999. ويضاف إليه ضعف المواقف الأميركية والأوروبية. وبالتالي، هناك "اتفاق" دولي وإقليمي على تصفية تلك الاحتجاجات مباشرة. الاحتجاجات هذه لن تتطوّر، ولكنها ستظلُّ تستعر بقوّة في تلك الدولة، وفي أوكرانيا وبيلاروسيا وفي روسيا ذاتها، وهذا يفتح على ضرورة تشكيل تحالفاتٍ شعبية بين شعوب تلك الدول من أجل كسر الهيمنة الروسية، وهذا غير متوفر حالياً.

إذا كان نزارباييف رجلاً قويّاً، فإنّ خليفته ليس كذلك، ويتصادف وصوله إلى الحكم مع محاولة بوتين فرض نفسه زعيماً على دول الاتحاد السوفييتي السابق

الرئيس الروسي بوتين الذي يرى نفسه ندّاً للرئيسين، الأميركي بايدن والصيني شي جين بينغ، سيما أنّه يحتل سورية ويدفع قواته إلى أوكرانيا ويهدّد حلف شمال الأطلسي وأميركا والاتحاد الأوروبي، يرسل طائراته المخصّصة لنقل الجيوش للتدخل في كازاخستان. إذا كان نزارباييف رجلاً قويّاً، فإنّ خليفته ليس كذلك، ويتصادف وصوله إلى الحكم مع محاولة بوتين فرض نفسه زعيماً على دول الاتحاد السوفييتي السابق، وبالتالي تدخل كازاخستان وأوكرانيا وبيلاروسيا كما سورية على الرغم من أنّها من خارج دول ذلك الاتحاد، أسوأ مراحل أزماتها؛ فليس من موقفٍ أميركيٍّ جاد، وهناك ضعف شديد يعانيه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وتنشغل أميركا بمواجهة الصين. وصول التظاهرات القوية إلى روسيا وحده ما سيقدّم معطيات جديدة، للتغيير في الدول المشار إليها. 
لا تملك روسيا خياراً آخر إلّا القتل والاعتقال والتدمير، وهو ما بوشر به في كازاخستان، ولا تملك الدول الأوروبية وأميركا سياساتٍ جادّة نحو التغيير الديمقراطي، ودعم شرعة حقوق الإنسان، ولن تتدخل أبداً من أجل تلك المسائل، وهي قضايا يرفعها عالياً بايدن في سياساته العالمية، فكيف إن أخذنا بالحسبان مصالح شركات كبرى أميركية وأوروبية عاملة في هذا البلد، وهناك مصالح كبرى لتركيا؟
كازاخستان متروكة لغزوٍ روسيٍّ الآن، كما حدث في سورية، وسوى ذلك، ليس هناك إلّا تظاهراتٍ شعبيةً ستتعرّض لما ذكرناه.