نجاح باهر في تسميم الأجواء

نجاح باهر في تسميم الأجواء

29 يناير 2022
+ الخط -

سواء نشبت الحرب أم لا، فإن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ينجح نجاحا باهرا، عبر اتباع سياسة حافة الهاوية في الأزمة بشأن أوكرانيا، بتسميم الأجواء في قارّة بكاملها، أوروبا، وعلى نحوٍ أعاد إلى الأذهان مقدّمات الحربين الكونيتين. وهذا هو حتى تاريخه الإنجاز الملموس لسياسة التحشيد والتصعيد ضد البلد الصغير المجاور، وهذه هي الخدمة التي يتم تقديمها لقضية الأمن والسلام في العالم، ويتم طلب ضماناتٍ من الغرب تحت طائلة "التحرّك" نحو هذا البلد، تحرّكاً أوسع مما جرى في العام 2014 ضد المناطق الشرقية منه، والتي أوقعت 14 ألف قتيل، واستتبع ذلك باحتلال شبه جزيرة القرم (ينتمي سكانها إلى التتار، وقد تم تشتيتهم والتنكيل بهم منذ عهد القياصرة وخلال الحقبة السوفييتية وإحلال سكان آخرين محلهم).

لا أحد يتحمّس في أوروبا للحرب، وهو ما تدركه القيادة الروسية جيدا، ولهذا ترفع من وتيرة التصعيد والتحشيد. فيما تكرّر واشنطن أنها لن ترسل قوات إلى أوكرانيا غير العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وفي تلك الأثناء، لا يطلب بوتين من أوكرانيا ضمانات أو غيره، فوريث الاتحاد السوفييتي يخاطب الدولة العظمى، ولا يخاطب الدولة الصغيرة، حتى لو كانت هي المعنية الأولى. ومنذ أن أبدى رغبته باستعادة الأمجاد الروسية وأسفه الشديد على كارثة انهيار الاتحاد السوفييتي، فإنه يتعامل مع الدول ذات العضوية السابقة في المنظومة الاشتراكية على أنها في منزلة دول "متمرّدة" لا دول مستقلة. ويتجاهل الرئيس الروسي أن الاتحاد السوفييتي قد انهار من داخله، وليس بفعل ضغط خارجي أو مواجهة عسكرية، وأن دول شرق أوروبا قد انفكّت بدورها عن المنظومة الاشتراكية بفعل انتفاضات شعبية، وليس نتيجة مؤامرة إمبريالية. وأن خيار الانضمام إلى "الناتو" كان أيضا خيارا داخليا، وعبر برلمانات منتخبة، وكذلك الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأن بناء علاقات تعاون مثمر مع هذه الدول هو الذي يكفل إقصاء شبح الحروب والتدخلات، وهو الذي قد يدفع مستقبلا هذه الدول إلى القناعة بعدم الحاجة للانضمام إلى حلف خارجي مثل الناتو.

يركّز مسؤولون روس على أن العالم انتقل إلى تعدّدية قطبية، وأن لا مكان لقطب واحد. حسنا من الأفضل ألا يكون هناك أي قطب، وذلك بديلاً عن القطب الواحد وعن التعدّدية القطبية. وخلال ذلك، فإن النفوذ الخارجي (ضمن الطموح لتعدّدية قطبية) لا يتأتّى بالقوة العسكرية وحدها، بل بالتقدّم الصناعي والعلمي وبرفاهية الشعوب وتمتعها بحقوقها الأساسية، في إدارة حياتها واختيار من يمثلها ويحكمها، وفي نبذ استخدام القوة لحل النزاعات بين الدول، وفي عدم التمييز السلبي أو الإيجابي بين دول كبيرة وأخرى صغيرة، وهو ما منح أوروبا المكانة التي تبوأتها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهو ما جعلها تستقبل ملايين البشر من القارّات الخمس من مستعمراتها السابقة، ومن غير المستعمرات للإقامة والعمل، وهو ما جعلها تستقبل لاجئين من العراق وسورية وأفغانستان ودول أفريقية ولاتينية بلا عدد. هل تستقبل روسيا أحداً من الساعين إلى النجاة أو إلى حياة أفضل؟

من حق روسيا تنظيم علاقات القوة ومعادلاتها مع الغرب وغيره بصورة دورية، إلا أن التحشيد والتصعيد والتهديد بالاجتياح ليس مدخلا إلى بناء هذه العلاقات

من حق روسيا تنظيم علاقات القوة ومعادلاتها مع الغرب وغيره بصورة دورية، إلا أن التحشيد والتصعيد والتهديد بالاجتياح ليس مدخلا إلى بناء هذه العلاقات، يصعب تصوّر أن روسيا تقع في مرمى التهديد من دولةٍ، مثل أوكرانيا، وقبل ذلك من جورجيا.. وإذا كان "الناتو" يمثل حلفا عدوانيا، فماذا يسمّى قضم روسيا أراضي هاتين الدولتين: شرق أوكرانيا، وسلخ إقليم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا؟ ومع ذلك، يصف مسؤولون جهود روسيا على المسرح الدولي، منذ بدء الألفية الثالثة، بأنها جهود لصنع السلام، فإذا أضيف إلى ذلك ضم شبه جزيرة القرم بالقوة، والتدخل العسكري الروسي في سورية الذي أوقف كل حل سياسي لأزمة هذا البلد، ثم التدخل في ليبيا إلى جانب الجنرال خليفة حفتر في سعيه إلى الانقضاض على العاصمة طرابلس، فإن هذه النماذج تكفي وحدها للتدليل على أن روسيا تستثمر في الأزمات والتوترات، لا في السلام والتسويات.

ولافت أن جنوح أوروبا إلى الحلول السياسية والدبلوماسية لمعالجة أزمة أوكرانيا (مواقف ألمانيا وفرنسا على الخصوص) لا يقابل إلا بتصعيد من موسكو، وكأن تجنّب الحرب المدمرة يعكس وهَنا وخورا، وليس إحساسا بالمسؤولية الكبيرة ووعيا مسبقا بحجم مخاطر الحرب وأهوالها. علماً أن ثمّة دول نووية في أوروبا شأنها شأن روسيا، ولا تشكو من ضعف في قدراتها العسكرية والتصنيعية والعلمية، بما في ذلك التفوق التقني الذي يشمل الأمن السيبراني، بمختلف جوانبه واستخداماته السلمية وغير السلمية.

لافت أن جنوح أوروبا إلى الحلول السياسية والدبلوماسية لمعالجة أزمة أوكرانيا لا يقابل إلا بتصعيد من موسكو

إنه لأمرٌ يستحق التأمل أنه بينما يتطلّع العالم لنجاح مفاوضات فيينا بين الغرب (ومن ضمنه هنا روسيا) وإيران، وبينما يجِدّ العالم في مكافحة جائحة كورونا ومتحوّرات الفيروس، وفي التنبه إلى مخاطره على الحياة البشرية، وعلى دورة الاقتصاد، وبينما تعبر أوروبا، ومعها روسيا وأميركا الشمالية، فصل الشتاء الأشد قسوة، تختار موسكو أن تشغل العالم بالتحشيد ضد الجارة أوكرانيا والتلويح المطّرد بالحرب عليها، ومن دون أن تبدر عن كييف أية مبادرة أو محاولة للمساس بموسكو، وأنّى لها ذلك، وهي تدرك موازين القوى، كما تدرك أن موسكو تتطيّر من مجرد وجود أوكرانيا مستقلة، فكيف إذا بدرت عنها بادرة عدائية؟

في تعليقات المسؤولين الروس عن احتمال نصب أسلحة استراتيجية على الأراضي الأوكرانية، تهدّد موسكو وحتى الكرملين، فقد تبين، بعدئذٍ، أن موسكو تقف ضد أي مستوى من التسليح تلجأ إليه هذه الدولة، شأنها في ذلك شأن بقية الدول، وأن الأمر لا يتعلق بأسلحةٍ فتاكة، وذات طبيعة استراتيجية. وبهذا، تتطلب الأمجاد الروسية، حسب موسكو، وضع شعوب أخرى تحت طائلة التهديد المباشر والمستمر، وذلك عقابا على الخطيئة الأصلية.. وهي التمتع بالاستقلال. علماً أن ثمّة رابطة باسم "رابطة الدول المستقلة" تضم، منذ ثلاثين عاما، روسيا وأوكرانيا معا، ومعهما عشر جمهوريات سوفييتية سابقة، لكن وجود هذه الرابطة لم يمنع الغضب الروسي على كييف في عام 2014، حين قامت انتفاضة شعبية ضد الرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يوشينكو، المقرّب من موسكو، والذي كان يرفض انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، خلافاً لرغبة شعبية.