ميراث الاستبداد .. رؤى مختلفة

ميراث الاستبداد .. رؤى مختلفة

25 يونيو 2021
+ الخط -

إذا كان إبراهيم البيومي غانم، ضمن رؤيته التي تتعلق بالذاكرة الحضارية وتفسير الظاهرة الاستبدادية، قد ربط ذلك، بشكل أساسي، وبمفتاح رآه الأهم في ميراث الاستبداد، في سياق تصور الدولة القومية الحديثة لنفسها وأدوارها والنشأة التي تعلقت بها، وعلاقة ذلك كله بالدولة من جانب وعلاقتها بالمحكومين من جانب آخر، وما أثر ذلك في صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع بناء على ذلك المنظور، إذا كان أمر البيومي غانم كذلك، فإن الأمر في هذه الذاكرة لا يتعلق بهذا التفسيرفقط، ولكن هناك رؤى أخرى قام بالتنظير لها كمال عبد اللطيف في كتابه حول "تشريح أصول الاستبداد" (دار الطليعة، بيروت، 1999)، وكان مدخله في ذلك واضحا في إطار ما اختاره عنوانا فرعيا؛ "قراءة في نظام الآداب السلطانية". وبدا لهذا المنظور أن يقدّم أكثر من تفسير لظاهرة السلطة واستبدادها، من خلال منظومةٍ من المفردات والخطابات حولها. ومن المهم، في البداية، تأكيد أن هذا النمط من التأليفات الذي بحث عن تفسير للظاهرة الاستبدادية في جوف الذاكرة التراثية كان اتجاها اتسم بكثيرٍ من الجدّية في حصر خريطة تلك الكتابات والاطلاع عليها.

لرضوان السيد إسهام متميز حاول أن يجمعه ضمن ثلاثية مهمة تتعلق بالسلطة والجماعة والأمة. ولعل هذا المثلث ضمن تأويلات مختلفة قد شغل عقول الفقهاء، خصوصا بعد التحولات السياسية التي طاولت الاجتماع السياسي للمسلمين في تلك الآونة، وبدا الأمر في إطار تنازعٍ بين أفكار متعدّدة ومتقاطعة من ضرورة السلطة ووحدة الأمة وأزمات المحنة والفتنة، وكانت معضلة الفقهاء بحق هي تلك الفجوات الخطيرة والكبيرة التي طرأت على الاجتماع السياسي الإسلامي، في محاولته إيجاد معادلة مقبولة ومعقولة في هذا الشأن، وبقي الأمر في تغليب أمورٍ تتعلق بهذه الدوائر الثلاث، من ضرورة السلطة واستهداف وحدة الأمة وتجنب الفتنة ودرئها؛ أمورا أساسية في عقلية الفقه والفقهاء، وباتت القيمة السياسية متأخرةً ومتواريةً، ولم يكن لها الموقع المناسب الذي استندت إليه منظومة الحكم في الخلافة الراشدة، لتؤكد على تلك القيم الأساسية المتعلقة بالمنظومة السياسية وأصول تنصيب السلطة واستمراريتها وشرعيتها. ولذلك كانت تلك البصيرة النافذة لرضوان خاصة، وهو المتخصص في الفكر السياسي الإسلامي، بل قام على خدمة هذا التراث بتحقيقاته المنهجية والعلمية الفياضة لنصوص تراثية كثيرة كانت من القيمة بمكان لا يمكن، بأي حال، أن يُنكر تأثيرها العلمي والبحثي ضمن هذه الدائرة التي تتعلق بالذاكرة التراثية.

اتخذت بعض الدكتاتوريت من التحديث والحداثة غطاءً لممارسة استبداد حداثي غير مسبوق، وتحت دعوى حماية الدولة والدولتية

وإلى حد كبير، أصاب هذا النمط من التفكير الفكر السياسي الإسلامي ببعض التراجع في هذا الشأن، خصوصا في الكتابات التي تعلقت بالأحكام السلطانية، والآداب السلطانية على وجه الخصوص، وهو ما أتاح مساحاتٍ ناقدة ليست قليلة؛ مثلها الذين درسوا الآداب السلطانية، وتوقفوا على كثير من مفاصلها، وأكدوا أن تلك التأليفات في الذاكرة التراثية لم تكن بأي حال بعيدةً عن تشكيل الظاهرة الاستبدادية، وبات مفهوم الطاعة مرتبطا بحالةٍ قهريةٍ ومفهوم السلطة متلازما مع وصف "سلطان قاهر". هذا ما أبداه الماوردي في كتابه "أدب الدنيا والدين" الذي أشار، في أحد فصوله، إلى مسألة صلاح الدنيا، وأنه لا تصلح الدنيا إلا بست، وجعل الثانية منها قواعد وأركانا تتعلق بـ"سلطان قاهر"، إلا أن المتأمل فيما قصده الماوردي في تلك الصفة، وجعل الأمر ملتبسا؛ هل هو يقصد بها قهرا يتعلق بالاستبداد الطاغي، أم يتعلق بالهيبة والنفاذ في حركة السلطة، والقيام بممارسة قدراتها في التغلغل، وقيامها على إدارة المكونات والعلاقات السياسية في الاجتماع السياسي آنذاك، وكأن الأمر، في هذا السياق، كان يتعلق بالإشكال المرتبط بصنع القرار ونفاذه ضمن مشكلات جمّة، واجهت السلطة آنذاك، وضمن استهداف خارجي وغزو من هنا وهناك. وبات هذا الأمر يشكل جوهر معضلة الفقهاء وأزمة حقيقية في مواجهة هذا الإشكال الخطير الذي طرأ على تصور السياسي وارتباطه بالديني، وكذا ارتباطه بالقيمي.

ولعلنا هنا نستدعي تعريفا لأستاذ مبرز في العلوم السياسية، ديفيد أستون، حينما حاول تعريف السياسة بأنها "التوزيع السلطوي للقيم"، وهو في ذلك لم يكن يعني تلك الصفة الاستبدادية، وإنما كان يشير، في حقيقة الأمر، إلى تلك الحركة والممارسات التدبيرية والتنظيمية فيما يتعلق بإدارة الموارد السياسية، معنوية كانت أو مادية، وما يتعلق بتوزيعها في أرجاء الكيان السياسي. ومن هنا، فإن هذا الفهم يستشرف هذا المعني للسياسة، وهذا المعنى لصفة القاهر المرتبط بالسلطة والسلطان، بما يحرّك تفسيرا وتأويلا، ربما أخذه في الاعتبار قد يجعل هذا الأمر لا يشكل إدانة كاملة لهذه الآداب السلطانية، حينما مارست اجتهادا واقعيا، يحاول، بشكل أو بآخر، أن يصل ما بين الواقع والمثال، وتعاملا مع تلك التجاوزات الكبرى التي حدثت، وأدّت إلى تلك المعضلة السياسية التي لا يمكن إنكارها داخل الفكر والفقه السياسي الإسلامي.

وقفت تجارب الحكم موقفا مناهضا من الرؤية الإسلامية إجمالا؛ وظلت ممارستها الاستبدادية علامة شديدة الخطورة

في هذا السياق، يمكن أن نرى هذه الإسهامات العميقة التي قدّمها كمال عبد اللطيف وصحبه، مثل عز الدين العلام وغيرهما، ممن أصدروا تأليفاتٍ سياسية في هذا الشأن. ولم تكن هذه الكوكبة، في أي حال، إلا قارئة متقصّية وفاحصة لتلك الكتابات في الآداب السلطانية، إلا أن المشكلة التي تعلقت بمعركة بين فريقين واتجاهين، أحدهما زكّى منظومة الفكر السياسي الإسلامي والآخر مثل الفكر الحداثي؛ ألقت بظلالها وثقلها على تلك النظرة التي ربطت ربطا مؤكّدا بين أصول الظاهرة الاستبدادية بتلك القراءة في نظام الآداب السلطانية، ذلك أن الساحة الفكرية ظلت مجالا لضغوط فكرية وحضارية تنازعها هذان الطرفان، وعلى هامشهما نبتت مجموعة من المتطرفين، يتحدّث أحدهما عن قداسة التراث وعصمته، والآخر يتحدث عن ضرورة القطيعة معه، والتخفف من حمله وحمولته، وصار لا يبحث في التراث إلا متصيّدا أو متربصا؛ إلا أن هؤلاء الذين أشير إليهم لم يكونوا إطلاقاً من هؤلاء، ولم يسلم ما مارساه من تأويل من ضغط ذلك الصراع بين الرؤى السياسية الإسلامية والرؤى الحداثية التي وفدت من حضارة الغرب، وأثارت جوهر القضية التي أشار إليها أستاذنا المستشار طارق البشري في "ماهية المعاصرة" (دار الشروق، القاهرة، 2005)، وتشريح عالم المفاهيم المرتبط بها.

وهو أمر من المهم التوقف عنده مليا في بعض الأحكام والتعميمات التي صدرت في هذا الاتجاه حول هذه الآداب السلطانية، خصوصا وأنه قد تم اتهام خطاب تلك التأليفات بدورها الحاسم في تكريس الظاهرة الاستبدادية وتمكينها في مجتمعاتنا، على الرغم من أن الواقع السياسي، والذي شهد بحق نظما قومية وعلمانية مارست استبدادا حداثيا لا يمكن إنكاره، وأن تجارب الحكم، على الرغم من أنها وقفت موقفا مناهضا من الرؤية الإسلامية إجمالا؛ إلا أن ممارستها الاستبدادية ظلت علامة شديدة الخطورة؛ واتخذت معظمها من التحديث والحداثة غطاءً لممارسة استبداد حداثي غير مسبوق، وتحت دعوى حماية الدولة والدولتية، وهو أمر حريّ بنا أن نتوقف عنده بالدرس والبحث في تلك الهوامش لدراسة الظاهرة الاستبدادية، وتبصّر المعادلة التي تتعلق بحقيقة العلاقة بين الحكام والمحكومين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".