مونديال الأحداث الكردية السورية في 2022

مونديال الأحداث الكردية السورية في 2022

06 يناير 2023

سوريات كرديات في احتجاج على مقتل أكراد في القامشلي (10/11/2022/فرانس برس)

+ الخط -

عبر كرد سورية، كغيرهم من السوريين، إلى سنة جديدة، وتقول المرويات إنهم يأملون الخير الوفير والرخاء والأمان، ولعل مشهد إطلاق الرصاص بشكل همجي، وبمختلف الأسلحة الفردية، في ليلة رأس السنة، خير مُمهد لحال السنة الجديدة، خصوصاً أن "مُدمني" الأعيرة النارّية أصبحوا واجهات البلد الاجتماعية، بل راح بعضها يُعرّف عن نفسه نخباً ثقافية فكرية تحمل في جعبتها حلولاً كثيرة للمشكلات المستعصية، غير مفرّقين بين الجُعب المخصصة للسلاح والأخرى الرمزية للثقافة والإبداع. توقف كاتب هذه السطور أمام أحد المقاهي التي ترتادها تلك "النسخ من النخب" الجديدة، حيث دارت أغلب أحاديثهم في مستقبل البلاد كصور منسوخة عن توقعات أهل البخت والبصّارات والتنجيم، يقدّمون أحجياتٍ غامضة، لا تتعلق بجنس الحلول، أكثر من كونها أزمة جديدة تعصف بالواقع الكردي في سورية، أزمة الخطاب الشعبوي المقيت.

كان عام 2022 كسابقه من الأعوام لتكرار الهزائم الكردية في سورية، حيث ضياع الشعب أمام "الإدارة الذاتية"، وهزيمة الأخيرة في أغلب الميادين التي تقودها، وانتصارها على المجتمع الكردي. ولا يقال هذا من باب ندب المآل والبكاء عليه، ولا حتى جرّاء صدمة أصابتنا نتيجة للأوضاع التي نعيشها، بل فقط لنوضح حجم النكبات التي يتأقلم معها الكُردي في بلاده من دون عناء الخوض في تغييرها، وكأن لسان حالهم نتيجة طبيعية ومتوقعة، وليست مفاجئة حتى نرفضها. وللأمانة، هذه الهزائم امتداد لسلسلة إخفاقات يعيشها الكردي في سورية منذ عقدٍ على الأقل، وفي كل عام يتحسّرون على العام الذي قبله، فالكهرباء تزور المنازل، لتقول لهم "السلام عليكم" وتغادر فوراً، والمياه نتيجة انقطاعها الدائم عن الحسكة وريفها تحوّلت إلى سلعة أساسية للشراء اليومي، مثلها مثل الخبز والمازوت الذي يرتفع سعرهما من دون علم الوزير والوزارة والحكومة والمجلس التشريعي. آلاف الهكتارات الزراعية، ويستمر مسلسل استيراد الخُضَر والفواكه من عدة دول، معبرٌ يتيم بين الكرد وأشقائهم في كردستان العراق، يحتاج الكردي عشرات الوساطات للعبور، الأمراض المزمنة والأوبئة. التعليم قصة وحكاية خاصة، حيث يصرّح المسؤول بضرورة التزام الطلبة الكرد بلغتهم ومناهجهم، يقولها على عجلٍ من أمره، فهو مصرٌّ على استقبال ابنه من مدارس الحكومة السورية، التخوين والعمالة للآخر المختلف في أغلب المنازل، والإعلام الكردي نسي وتناسى مئات الملفات التي تهمّ الشأن الكردي، وتخصّص في فنون ملاحقة الكتّاب والصحافيين ذوي الميول السياسية أو الآراء المخالفة للسلطة، سياسة الاعتقالات والخطف لا تنتهي، ويبدو أنها لن تنتهي، المخدّرات تفتك بالشباب، وتنظيم داعش يحاول المستحيل للعودة إلى الساحة مجدّداً.

فشل كرد سورية في إدارة أمورهم، وهذه حقيقة، والغريب أن هياكل الحكم، على اختلاف أحجامها ونفاذها وقوتها، تصرّ على توهم أنهم في الطريق الصحيح

أغلبية المواطنين فقدت القدرة على العيش، أجور العمل متدنّية، وإن رفعت "الإدارة الذاتية" رواتب موظفيها أو صرفت منحة لمرّة واحدة إبرةً للتخدير، لكن تعدّي انهيار العملة عتبة السبعة آلاف مقابل الدور الواحد يعني أن الرواتب بالكاد تساوي 50 دولاراً أو أقل شهرياً، ويعني أنها لا تسدّ احتياجات المواطنين أكثر من ثلاثة أيام. وهذه الأزمة الاقتصادية عنيفة، ويبدو أن لا حلول لها، الوضع الاجتماعي والإنساني والتعليمي يتفاقم بسرعة مذهلة، والاحتجاجات تظهر بين حين وآخر في دير الزور وغيرها، مؤسسات الإدارة الذاتية تشعر بعجزها أمام بؤس واقع حال المواطنين، خصوصاً في مجالات الطاقة والمواد الاستهلاكية، هَجَر وهُجر الشعب إلى خارج البلاد، فالأمن الغذائي في أعلى درجات الخطورة، خصوصاً مع إحاطة الزراعة بجملة من المشكلات والقرارات التي تُشكل دائرة صُلبة من الأزمات التي تُحيط بالأمنين، الزراعي والبيئي.

الصناعة مفقودة، والتجارة لا تأتي بالنفع على المشتري والمجتمع المحلي. أما قطاعات الطب والصحة والعدالة والمحاكم، فهي في أكثر حالاتها قرفاً وفساداً. الخلاف الكردي - الكردي على أشدّه وفي أوجه، و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) تتحوّل إلى الهدف المشترك بين أغلب الفاعلين الأساسيين والثانويين حول سورية، ومصير ما بقي من شمال شرق سورية في أخطر حالاته، بعد أن أصبحت المناطق الخارجة عن سيطرة تركيا، مثل تل رفعت، منبج، كوباني، في خطر حقيقي، خصوصاً بعد لقاءات رفيعة المستوى بين تركيا والنظام السوري برعاية روسيا. وقد تكلم المجلس الكردي كثيراً عن التغيير وتطوير العمل، ويبدو أن الشيء الوحيد الذي غيره هو تغيير فكرة التغيير نفسها. أما "الإدارة الذاتية"، فهي هدفُ كل من يرغب في الفساد، بل مُبدعة في الفشل وتجميع أكبر قدرٍ ممكن من الأوجاع للقواعد الاجتماعية، فما الذي بقي من حالنا وحيواتنا؟

الجائعون لا يبحثون عن كتلة من الشعارات والبيانات، بل عمّا يسند بطونهم، وهذا ليس تفصيلاً، بل أصل البناء السياسي

ذلك كله في كفّة، وما يعانيه الوسط السياسي الكردي من تخمة أعداد الأحزاب الكردية في كفّة أخرى، التي لم تقدم أيّ جديد، فهي إما تلتزم سياسات المجلس الكردي، فتصبح رقماً جديداً فيها مستفيدةً من أشياءٍ كثيرة، أو تجد لدى "الإدارة الذاتية" ما يُشبع حاجاتها فتلجأ إليها. فلماذا تنشقّ الأحزاب الكردية عن بعضها، وتنتهي أي فرص للعمل المشترك، لكنها تشتغل معاً ضمن إطارٍ أوسع؟ وما الحاجة لإعلان حزب جديد لا يُقدم أيَّ جديد، بل لا يتجاوز عدد أعضائه المنظّمين والموالين والمؤيدين أكثر من عشرة أشخاص في حالات كثيرة؟ لا تتمكن غالبية تلك الأحزاب من عقد مؤتمراتها، فهي إما تخاف من انشقاقٍ جديد، أو من تغيير في مواقع القيادة والسلطة، فيخسرون بوصفهم أشخاصاً، وهي بمثابة نهاية العالم لهم، لكن خسارة القضية والأرض والمستقبل يُمكن الحديث عنها عبر بيانٍ أو تصريح. ويبدو أن المال السياسي تحوّل إلى لُبّ القضية والمستقبل الكردي في سورية لدى قسم ليس قليلاً.

كل تلك الإخفاقات تُعنون بـ"الانتصارات المذهلة"، علماً أن أبشع حالات المرارة والانكسارات وأشدّها هي التي تعيشها القواعد الاجتماعية والسياسة الكردية. ولعل أحدهم سيقول إن هذا هو حال كل سورية، وهو قولٌ حق، لكن أحداً لا يملك كل هذه المعابر، والأراضي الزراعية، والنفط والغاز وطرق نقلها، والنقاط الحدودية، وعضوية في التحالف، والمعارضة السورية، و... إلخ، ويعيش هذه الحياة الجرداء، كما يعيشها كرد سورية، نحن المختنقين بانتصاراتنا الوهمية، ونعلم جيداً حجم الاستعصاء في مستقبل قضيتنا. وكالعادة، ستقول "الإدارة الذاتية" إن إقليم كردستان، وتركيا، والمعارضة، والنظام السوري، وروسيا، وكل الدول العربية، يحاربونها، من دون أن تسأل هي نفسها، لماذا كل هذا العِداء من كل تلك الجهات وفقاً لها. وسينتهي المطاف بالمجلس الكردي إلى القول إن "الإدارة الذاتية" تمارس أقصى درجات العنف ضدها، ولم تسأل نفسها لماذا انفضّ الناس من حولها جماعاتٍ وفرادى، ومن المستفيد من بطئه وضعفه!

الخلاف الكردي - الكردي على أشدّه وفي أوجه، و"قوات سوريا الديمقراطية" تتحوّل إلى الهدف المشترك بين أغلب الفاعلين الأساسيين والثانويين بشأن سورية

إذاً، فشل كرد سورية في إدارة أمورهم، وهذه حقيقة، والغريب أن هياكل الحكم، على اختلاف أحجامها ونفاذها وقوتها، تصرّ على توهم أنهم في الطريق الصحيح. الحياة في هذه البلاد أشبه بمن فقد بصره ودخل حقل ألغامٍ مخيف، فالهزّات وصلت إلى منازلنا، ولا مجال لتجديد الأمل بإدارة الأزمات من جديد. وإذا كنّا لم نشهد بعد "الأجندات والخطط!" الكردية الجديدة، لكن ليس ثمة خيرٌ يُمكن توقعه، وكل المؤشّرات اليوم أسوأ مما كانت عليه الأعوام الماضية، بدءاً من الوضع الاقتصادي، وصولاً إلى الحريات وحقوق الإنسان، وآلية إدارة البلاد وتوفير المستلزمات المعيشية.

أمام هذا الانسداد الضخم في الآفاق والعلاقات والمعيشة والسياسة الكردية في سورية، هل يُمكن أن نتوقّع شيئاً جديداً للعام 2023؟ لا يعتقد الكاتب أن تحدُث المعجزات، وأن يتحوّل الكرد من متصارعين إلى راسمي السياسات، ولا قناعة لدى أحد الأطراف العسكرية والسياسية والقدرة على إسقاط الآخر، أو أن يتمكّن أحدهم من الانتصار المذهل والسيطرة المطلقة والتصرّف بوصفه نظاماً سياسياً وازناً ورصيناً. علماً أن أسوأ الأكلاف الباهظة، أن يُفكك المجلس الكردي، أو تنهار الإدارة الذاتية نهائياً، والعودة إلى ما قبل 2011، حينها نكون أمام أغلى الأثمان. وفي مقابل الهزائم المتكرّرة، المعادلة المأساوية هي في جعل المجتمع الكردي مجالاً خصباً لمزيد من التجارب، عوضاً من البحث عن مشتركاتٍ للتعامل مع الانسداد السياسي والمعيشي الحاصل. والأكثر غرابة أن من هُزموا يُفترض بهم إجراء مراجعة عميقة لتجربتهم وفشلهم، عوضاً عن الغوص في التآمر للحفاظ على مواقعهم، وكأنهم جزءٌ طبيعي من بقاء القضية الكردية.

لذا، تقتضي التطورات أعلاه الاعتراف بالهزيمة، في حدّه الأدنى أمام لقمة العيش، وضرورة طرح مشروع جديد. فالتعويل على استمرار السياسات السابقة، هو تأكيدٌ للنتائج نفسها، فالأمر في غاية التعقيد، وعقلية الثأر والإلغاء ما عادت تنجح أبداً، فالجائعون لا يبحثون عن كتلة من الشعارات والبيانات، بل عمّا يسند بطونهم، وهذا ليس تفصيلاً، بل أصل البناء السياسي، فهل من يحمل راية التغيير ويمنع مزيداً من التعفن أكثر، أو يبقى الارتهان هو الشعار الأساسي للعام الجديد؟ أم أن الأمل سيبقى معقوداً على مبادرات دولية لكل سورية، ومن ضمنها القضية الكردية، وحصول التغيرات المطلوبة في مراكز صناعة القرار؟ فمن فشلَ طوال عشر سنوات لن تنفع سياسة النفخ فيه مُجدّداً، فالميتُ لا يتحرّك بالأدعية.