موت كثير وتمويت أكثر

موت كثير وتمويت أكثر

19 مارس 2021

(إبراهيم الصلاحي)

+ الخط -

ينشغل بعض الصحافيين، خلال مشوارهم المهني، بملفات وقضايا تصير جزءاً من شخصياتهم، وتنحصر معارف بعضهم عند الإلمام بتفاصيل كل واردة وشاردة في ذلك الملف أو الشأن. ومن الصحافيين منّ يهتم بمتابعة قصص غريبة أو نادرة، ولكن إذا ما وقعت إحداها في يوم من الأيام، وكُتب للصاحفي سبق النشر عنها، فإنه يُخّلد اسمه في سجل صاحبة الجلالة وقتا طويلا. أحد زملاء المهنة الباقين في ذاكرتي، منذ ربع قرن تقريباً، كمال قبيسي، لبناني برازيلي. عاد إلى العمل في الصحافة العربية المهاجرة في لندن بعد سنوات طويلة قضاها في محاولة تأسيس مشاريع صحافية في المهجر. تزاملت معه في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، كان هو يتابع حكايات غريبة وقصصاً نادرة يتصيّدها من أرجاء العالم، بينما كنت أنا أغرق في روتين يومي ممل، أقضيه بين أخبار المال والاقتصاد. كان كمال يعتقد، إلى حد اليقين، بأن في أي خبر عالمي، لابد من وجود لاعب أو ضحية أو طرف عربي لابد من تعقب أثره. المهم أنني كنت أتسلى بسماع مكالمات كمال الهاتفية، غير الخاصة، وإنما التي يجريها مع شخوص حدث ما، وقع في أقاصي الأرض، أو على مقربةٍ من عتبات الصحيفة، في "إيدجوار روود"، حي العرب اللندني. واللافت في طريقة عمل كمال أنه كان يأتي إلى المكتب صباحاً، يمضي ساعات طويلة يتقلب بين صفحات الإنترنت وماكينة القهوة، وبينهما مشاوير خاطفة إلى غرفة التدخين. لا يشرع في العمل إلا بعد الظهر، عندما تهدأ الضوضاء في غرفة التحرير، يمسك الهاتف ويبدأ في البحث عن أبطال حكاية نقّبَ عنها.

من القصص التي أبقت كمال في ذاكرتي، تعقّبه حكاية بحرينيّ مات وعاد من القبر. وفي التفاصيل، أن هذا المتوفى كاد أن يقضي إلى ربه حيّاً، لولا رحمة الله التي أنقذته بعد أن انهالت على جثته، في مثواها الأخير، أولى رميات التراب. انتفض الرجل في قبره، وانتفض المشيعون مذعورين من عودة الفقيد. أثارت الحكاية فضول الصحافي كمال، فراح يبحث عن طرف خيط يربطه بالفقيد الحيّ، لمعرفة مزيد عن تفاصيل الرجوع من الموت. كانت هذه الأخبار المثيرة ترفع توزيع الصحيفة، ويَلقى مثيلها في زمن صفحات "فيسبوك" انتشاراً يراكم آلاف "اللايكات" من محبّي الأخبار الغريبة. وأخيراً، وصل الصحافي الشاطر كمال قبيسي إلى الميت العائد من قبره، وراح يسأله عن تلك الدقائق في القبر، ماذا رأيت؟ ماذا سمعت؟ وهل شعرت بالخوف؟.. إلخ، ثم كان السؤال الأطرف والأغرب: هل هذه أول مرة تموت وترجع؟

عاد سؤال الزميل كمال إلى سطح ذاكرتي، مع مطالعة سيل عارم من الأخبار المتعاقبة عن موت أشخاص، يسارع أصدقاؤهم من الدرجة العاشرة إلى نعيهم، وتشييعهم إلى مثواهم الأخير في "فيسبوك"، ثم يُبعث هؤلاء للتأكيد بأنهم لم يصيروا في ذمة الله بعد، بل لا يزالون على ذمة الحياة. آخر هؤلاء، المموتين، المناضلة الفلسطينية، ليلى خالد، نعاها أحدهم يوم الأربعاء الماضي. وقبل أيام، انتشرت التعازي بوفاة المفكر المغربي عبد الله العروي. وقبلهما انتشرت شائعة وفاة الفنان السوري دريد لحام. ولم ينج من ذلك الملياردير إيلون ماسك، مؤسس شركة "تسلا" العالمية، الذي وافته المنية بانفجار بطارية "تسلا" في سيارته، حسب الشائعات. أصاب الموت المُفبرك الفنانة فيروز مرّات، ومُوِتَ الرئيس المصري حسني مبارك، نحو 13 مرة منذ أن تنحّى عن الرئاسة في العام 2011، لم يَصِحّ منها إلا خبر وفاته الأخيرة العام الماضي.

كأن ما تتوشح به صفحات "فيسبوك" من سواد الفَقْد المُؤلم في زمن الوباء، لا يكفينا، حتى يغرقنا آخرون بشائعات الموت الزائف. الفنان المصري الراحل، حسن حسني، (1931 - 2020) علق قبل وفاته الأخيرة، على شائعات موته المتكرّر بالقول: "مُصِّرين إنهم يموتوني، لما يجي أجلي هتّكل على الله من غير ما استأذن حد.. الشائعات دي بروفات".

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.