من ينتصر: رهانات العرب أم ديناميكيّة إيران؟

من ينتصر: رهانات العرب أم ديناميكيّة إيران؟

17 يناير 2024
+ الخط -

بدا في بداية الحرب على غزّة أن ثمّة موقفاً عربياً أخذ في التبلور، بهدف ضبط الصراع والسيطرة على تفاعلات الحرب، وإعادة القضية الفلسطينية إلى الحظيرة العربية، لكن الحراك العربي لم يتطوّر، وبقي عند حدود معينة نتيجة حسابات ورهانات معيّنة، في مقابل حراكٍ إيرانيٍّ يتخذ بعداً استراتيجياً من خلال محاولة توظيف الحرب لتعزيز أوراق إيران الإقليمية والدولية.

بدون مقدّمات، همَدت، إلى حد بعيد، حركية الأطراف العربية التي عبّرت عن نفسها عبر نشاط وزراء الخارجية العرب وتحرّكهم بين عواصم القرار العالمية، في محاولة بدا الهدف منها استعراض قوّة الدبلوماسية العربية أكثر منها توظيف القدرات العربية في إحداث تأثير على مجريات الحرب، لكن الحركيّة العربية وصلت إلى ذروتها من دون أن تحقّق نتائج موازية، أولاً لأن الجهات المتلقية رسالتها إما أنها، في الأصل، لا تملك فعالية التأثير على إسرائيل، مثل الصين وروسيا، أو لأن تغيير موقفها يحتاج أكثر من مجرّد "فزعة" دبلوماسية، وهذا ينطبق على أميركا والغرب. ثانياً، لأن الطرف العربي لم يدعم تحرّكه بأوراق تفاوضية وازنة، لم يرصدها بالأصل من أجل الضغط على إسرائيل.

لكن وقائع السنوات الأخيرة، التي كشفت أن العرب يستطيعون تحقيق خروقاتٍ مهمّة في السياسة الدولية إن أرادوا، تثبت أن التحرّك العربي الأخير لم يكن أكثر من محاولةٍ لرفع العتب عن كاهل النظام الرسمي العربي، فقد سيطر على حسابات صنّاع القرار العربي مدركَان كان لهما التأثير الأساسي على تحركهما: الأول، أن هذه الحرب هي حرب الإخوان المسلمين، العدو اللدود لعواصم عربية عديدة، والحرب فرصة للتخلص من واحدة من أقوى أوراق قوتهم، أي حماس، وبالتالي لا داعي لاستخدام أوراق القوة في حوزتهم، أي الأنظمة العربية، من أجل حماس، والاحتفاظ بها لقضايا تهمّ أمن الأنظمة ذاتها.

أطلقت إيران منظومة وكلائها في المنطقة، من اليمن إلى العراق وسورية ولبنان، ولعبت على قضايا استراتيجية تقع في صلب مصالح الغرب

الثاني: أن الحرب فرصةٌ لإضعاف التأثيرات الإيرانية ونزع أوراقها في فلسطين والمنطقة، ما قد يدفعها الى عقلنة سلوكها في المنطقة وإنهاء سياساتها القائمة على التمدّد والتدخّل في شؤون دول المنطقة. وبالطبع، لم يأخذ هذا المدرك بالاعتبار إمكانية نجاة "حماس" وبقائها لاعباً أساسياً، وبالتالي، تعظيم دور إيران التي ستظهر أنها الطرف الوحيد الذي ساندها، بغضّ النظر عن حجم المساندة وفعاليّتها.

حاول الطرف العربي إضافة بُعد استراتيجي على موقفه، يتمثّل بمطالبة الأميركيين إيجاد مسار لقيام دولة فلسطينية، أو على أقلّ قدر تحقيق قدرٍ معيّن من الاستقلالية للفلسطينيين بعد الحرب، وهو ما كشفت عنه مفاوضات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في العواصم العربية، الذي يبدو أنه دمج المطلب العربي ضمن مطالب أميركية تطالب بتكفّل الدول العربية إعمار غزّة بعد الحرب، وربما التزامات مالية أخرى، لكن المشكلة أن هذه وعود يصعُب إلزام إسرائيل بها كما لم يستطع الأميركيون إلزامها باتفاق أوسلو، وبالتالي من الصعب أن يحقّق العرب اختراقاً مهمّاً في هذا المجال، في ظل انزياح المجتمع الإسرائيلي صوب اليمين.

في المقابل، كانت إيران أكثر عملانيةً من العرب، واستطاعت تحويل التحدّي إلى فرصة، وهي خبيرة بهذا الأمر، إذ مارسته جيّداً في الإقليم واستثمرت في الدم والخراب، وحوّلت الوقائع لصالحها، وفي هذه الحرب أطلقت إيران منظومة وكلائها في المنطقة، من اليمن إلى العراق وسورية ولبنان، لعبت على قضايا استراتيجية تقع في صلب مصالح الغرب، فقد ضغطت على العراق ليطلب من واشنطن بدء التفاوض على خروج قوات التحالف الدولي من العراق، مع ما يعنيه ذلك من فتح الباب لتحطيم استثمارات أميركا في كردستان العراق وشرق سورية، وأوجدت وقائع ومعادلات أمنية خطيرة في البحر الأحمر، أدّت إلى إرباك طرق الإمداد العالمي وإحداث تأثيراتٍ مباشرة على المستهلكين في أوروبا ومناطق أخرى.

يستطيع العرب تحقيق خروقاتٍ مهمة في السياسة الدولية إن أرادوا

وثمّة مؤشّراتٌ على مكاسب بدأت إيران بتحصيلها جرّاء استراتيجيّتها الراهنة، تتمثل في طلب الأميركيين، حسب تصريحات الخارجية الإيرانية، التفاوض مع طهران لإيجاد صيغة لإدارة النزاع في المنطقة، وربما التوصل إلى صفقة معيّنة، ستكون بالحكم لصالح إيران على حساب العرب، الذين ضيّعوا فرصةً نادرة ليكون لهم دور مؤثّر في السياسة الإقليمية، لو أنهم لم يبخلوا باستخدام أوراق قوتهم في هذه الحرب.

وتتمثّل المشكلة الأكثر خطورةً في الخسارة العربية في استقطاب إيران للشوارع العربية "السنية" في دول عربية عديدة بعد النكسة التي تعرّضت لها جهودُها للتقرّب من الشعوب العربية في أثناء الثورة السورية، ولا يقتصر الأمر هنا على أحزاب أو منظمّات، بل رأي عام بدأ يجد حرجاً في اتهام إيران بالتخاذل في دعم الفلسطينيين في غزّة، وثمّة من بدأ القول ليدعم العرب غزّة بحجم الدعم الذي تقدّمه طهران عبر المواجهات التي تقوم بها أذرعها في اليمن والعراق ولبنان، هذا أضعفُ الإيمان.

الفرق بين سياسات الأنظمة العربية وسياسات إيران اعتماد العرب على الرهانات التي يبدو أنها خاسرة في المجمل، ووضع كل الأوراق في السلّة الأميركية، والعرب هنا إن كسبوا سيكون بفضل الاستراتيجية الأميركية لمرحلة ما بعد حرب غزّة وقدرتها على تفعيل مسار الدولتين، وهو أمرٌ لا تدعمه المعطيات، مقابل اعتماد إيران على وقائع، وإدارة المخاطر بشكل جيد، واستخدام الميدان والدبلوماسية لتحقيق أهدافها. وفي الإجمال، يمكن القول إن إيران مقدمة على تحقيق نصر إضافي على العرب في محيطهم.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".