معزوفة الصيف .. معزوفة الأرنب

معزوفة الصيف .. معزوفة الأرنب

18 اغسطس 2022
+ الخط -

حمل صيف هذه السنة معزوفة ساهمت في نشر إيقاعات مألوفة ومتداولة وتعميمها في الثقافة السياسية العربية، يتعلق الأمر بزيارة الرئيس الأميركي، بايدن، دولة الاحتلال الإسرائيلي وفلسطين والعربية السعودية، أيام 13-17 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وقد بدأت إيقاعاتها تعلن عن نفسها قبل الزيارة، وارتفعت تَرانيمها ملونةً بأصنافٍ من المقاطع المتنافرة في أثناء الزيارة، وفي مختلف لحظاتها.. ثم تواصلت بعد نهايتها، حيث تحوّلت الإيقاعات في المعزوفة إلى مواويل تعيد وتستعيد حكاياتٍ لا علاقة لها بما حملته بيانات الزيارة من نتائج، ولا علاقة لها بما يجري اليوم في عزّ الصيف بعدها.. وكم تمنيتُ قبل الزيارة وبعدها أن نواجه أسئلة الحاضر في المشرق العربي بلغة أخرى، يكون بإمكانها أن تساعدنا في عملية تخطّي أحوال التبعية والرضا بما هو قائم، لعلنا نتمكّن من التخلص من معزوفات الصيف والشتاء..
أعرف أن الأماني وحدها لا تكفي، وإن كانت تحمل علامات إيجابية وأولية، وهي لا تعفي من تحمّل تَبعاتِ مصيرٍ تحكمه شروط تتجاوز التطلعات التي تحملها الأماني.. تابعت أنغام المعزوفة عن بعد، لأن مختلف البيانات والتقارير التي رافقتها لم تُركِب ما يساعد في عمليات التغيير المنتظرة في المشرق العربي أو في موضوع الحرب المتواصلة في أوكرانيا، ثم توقفتُ عن المتابعة، وقرّرت البحث عن معزوفة أخرى، متمّنياً أن تسمح إيقاعاتها بتخليصي من الرنين المزعج المتواصل في أذني وفي ذهني، رنين بيانات زيارة لم تتجاوز ما هو سائد من مواقف في علاقة الولايات المتحدة ببلدان المشرق العربي وعلاقتها الداعمة الكيان الصهيوني. كما أنها لم تسهم في بناء رأي عام، قادر على تركيب موقف واضح من التحولات الجارية في المشرق العربي وفي العلاقات الدولية.
قبل زيارة بايدن إسرائيل وفلسطين المحتلة والسعودية، وفي أثناء قراءتي البيانات والمواقف السياسية المعلنة بعدها، تبينتُ أنه لا يمكن فصل معزوفة الصيف عن مسلسل مواصلة التمهيد لـ"صفقة القرن"؛ العنوان البارز في مشروع الشرق الأوسط الجديد، مشروع تصفية القضية الفلسطينية.. وبعد نهاية الزيارة، تحوّلت معزوفتها في أذني إلى أصواتٍ مختلطة ومتداخلة، فقرّرت التخلص من كل ما يقوله الإعلام المرئي والمسموع، كما قرّرت عدم ولوج فضاءات التواصل الاجتماعي، لعلّي أتمكّن من تجاوز مختلف الآثار المترتبة على متابعتي إيقاعات الزيارة.. فوجدت نفسي بالمصادفة أمام عمل روائي بعنوان "معزوفة الأرنب" 2022 للكاتب المغربي محمد الهرّادي.

يبدأ إيقاع السرد في المعزوفة خافتاً، تتخلّله مقاطع ضابطة لميزان تنوّع الإيقاع

أول ما لفت انتباهي في المعزوفة غلافها المرسوم بثلاثة ألوان؛ الأرضية الخضراء وأحرف الخط السوداء والأرنب الأبيض في الوسط. أما ظهر الغلاف فقد استوعب تقديماً مكثفاً للرواية للناقد محمد برّادة بلور فيه روح السرد الواردة فيها. ولأنني أعرف الهرادي منذ روايته الأولى "اللوز المرّ" الصادرة سنة 1980، وأعرف كفاءاته الإعلامية في تركيب بورتريهات مهمة من قبيل نصه عن سيرة القائد النقابي المغربي محمد نوبير الأموي، موقع في قمة جبل (1995)، وكذلك النص الجميل الذي رسم فيه صورة ملاك الموت عزرائيل، فقد أقبلت على الاستماع إلى "معزوفة الأرنب"، متوخياً التخلص من الآثار التي تركتها المعزوفة الأولى في أذني.
يستدرج الكاتب وهو يُركِّب مفاصل معزوفته جملة من الذكريات، ينسجها بكثير من التهويمات والظِلال التي تضفي عليها طابعاً ملتبساً، ويحوّلها إلى حكايات قريبة من الواقع وبعيدة عنه في الآن نفسه، مع حرصه على إبراز إحالاتٍ تشير إلى أحداث وأمكنة وأسماء معروفة، ويتعلق الأمر بوقائع ترتبط بمغرب ما بعد الاستقلال وإلى حدود ثمانينيات القرن الماضي.
يبدأ إيقاع السرد في المعزوفة خافتاً، تتخلّله مقاطع ضابطة لميزان تنوع الإيقاع.. لهذا السبب، مَهَد الكاتب لروايته بصفحات تحت عنوان "ما قبل البداية"، بسطَ فيها جملة من المعطيات التي يمكن أن تساهم في ضبط سُلَم إيقاع المعزوفة، لحظات انسيابها ولحظات خفوتها وانقطاعها.. ومنذ أن استأنست بالشخصيات والأمكنة والفضاءات تصاعد الإيقاع وازدادت كثافته، فبدأتُ أبحثُ عن الأرنب الأبيض الجالس في غلافها وسط العشب الأخضر ينتظر أمراً ما.. وبعد أن انتهيت من قراءة الرواية، وجدت نفسي أبحث عن الأرنب الأبيض. التقيت في صفحات الرواية به ثلاث مرّات صحبة فتاتين صغيرتين تلعبان به ومعه، حيث يقفز الأرنب بينهما وأمامهما ثم يختفي، كما كنت أشعر باختفاء من كانتا معه. ويبدو أن الأرنب في الرواية لا يظهر إلا ليختفي، مثل أحداثٍ كثيرة فيها. وقد واصلت البحث عنه بهدف مزيد من تحصيل المتع التي تحملها صفحات الرواية، ومزيد من تشنيف مسامعي بإيقاعاتها المنسابة برقة وعذوبة.

إيقاع المتخيّل في الرواية يختلف عن إيقاع الواقعي واليومي.. وأن مفاتن الأول تفوق رتابة الثاني وتكراريته

المعزوفة في الرواية حكاياتٌ مُركّبة، وشخصياتٌ بوجوه عديدة، فلا وجود في المعزوفة للواحد المتطابق مع ذاته، ولا شيء يحصل فيها رغم حصول وقائع عديدة، القرين والمكافئ للشخصيات والأحداث في الرواية يُنوِع آلية السرد. وفي المعزوفة تهويماتٌ تضع المتلقي أمام أسماء وأحداث وأمكنة، وفيها، في الآن نفسه، ما يجعل القارئ غارقاً في بحر من الإيحاءات المرتبطة بكثير من أوجه الحياة في السياسة والاستعمار والمعمار والحب والجنس والتاريخ والصبوات.
إدريس، إدريس الروسي، البلشفيُ، صاحب السمو؛ واحد بأسماء متعدّدة، وهو عصبُ إيقاع المعزوفة، الموظف في "مكتب أرشيف الدولة"، حيث تتم عمليات ضبط كل ما يقع من أجل "حفظ النظام"، ومعه سعاد في صورها المتعدّدة، شبيهة جدّتها وأختها ريم، وقد عُيّنت بدورها في مكتب الأرشيف مع إدريس، ثم سي موح مدير مكتب الأرشيف والكاموني.
يتنوّع الإيقاع بتوالي سرد أحوال الشخصيات التي ذكرنا في تعدّد أوجهها حيث يحضر الصنو والقرين وكذا الشبيه، ومن دون إغفال جوقة الروس ومآثر الآداب والموسيقى الروسية كما يتمثلها إدريس، وفي أسئلة مكاتب أرشيف الدولة بكل ما يحيط بها من غموض رغم حضورها القوي في الرواية، إلا أن قوة المعزوفة تبرز بين حين وآخر في التدفقات التي يُركِبها السارد بين حين وآخر بلغة منسابة وموحية؛ لغة تمنح الإيقاع في المعزوفة سحراً وبهاء، وتحوّله إلى فضاء لاكتشاف كثير من الأبعاد المُكوِنة للنسيج الإنساني المتعدّد والمتناقض والحالم.. حيث يمارس صاحب السمو رقصه، وينسج خيوط كلماته بهدوء وإحكام.. وفي غمرة سحر إيقاع "معزوفة الأرنب" انتبهتُ إلى أن إيقاع المتخيّل في الرواية يختلف عن إيقاع الواقعي واليومي .. وأن مفاتن الأول تفوق رتابة الثاني وتكراريته.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".