محنة أوكرانيا.. دور تركي تزداد أهميته

محنة أوكرانيا.. دور تركي تزداد أهميته

19 مارس 2022
+ الخط -

لدى بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، 24 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، تلقت أنقرة هذا النبأ بشعور الصدمة، مثل أغلبية عواصم دول العالم، فقد كان المسؤولون الأتراك يراهنون بعض الرهان على التوسط بين موسكو وكييف، لتفادي الجنوح الروسي إلى الخيار العسكري، ومع أن أنقرة لم تُفاجأ بالرفض الروسي لعرض الوساطة، قياسا إلى رفض موسكو عروضا أميركية وفرنسية وألمانية بمنح الدبلوماسية مرتبة الأولوية وفرصة أكبر، إلا أن أنقرة ظلت في موقع غير المرجّح للحرب، ورأت في الحشود الروسية آنذاك على حدود البلد المستهدف محاولةً لانتزاع أكبر قدر من المكاسب من هذا البلد ومن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، غير أن ولع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بشنّ الحروب التي تُبقيه "مرفوع الرأس" هو ما حدّد مسار الأحداث، ودفع بها إلى منعرج عدائي واسع النطاق. وكان للصدمة التركية، جرّاء هذا التطور، بواعثها، فأنقرة على علاقة جيدة بالطرفين، الروسي والأوكراني، وتتلقى الغاز والنفط الروسيين، مثل عواصم أوروبية. وفي العام 2020، كانت تستورد أكثر من نصف إجمالي وارداتها من الطاقة من روسيا. وفي العام 2021، تضاعفت واردات تركيا من الغاز الروسي، فيما بلغت مستورداتها من النفط الروسي نحو 57% من مجمل وارداتها النفطية.

أبدت دول أوروبية عديدة انفتاحها على أنقرة وتأكيدها على أهمية هذا البلد، وعلى دوره في إرساء الأمن والاستقرار

لمّا وقعت الحرب ضد أوكرانيا، وجدت أنقرة نفسها تقف أمام خياراتٍ صعبة، إذ ترتبط بعلاقات اقتصادية وسياسية وثيقة بالبلدين، فيما تتفادى الإخلال بالمعادلات الجيوسياسية الدقيقة التي تمنح أنقرة نفوذا في مناطق البلقان وجمهوريات آسيا الوسطى. وتستقبل تركيا على الدوام ملايين السائحين من البلدين، وكان أن سعت إلى أكبر قدر من التوازن في مواقفها المعلنة والفعلية، فقد أيدت وحدة أراضي أوكرانيا وسلامتها وسيادتها، ودعت إلى وقف الحرب، وفي الوقت ذاته، تجنّبت المشاركة في العقوبات الغربية على موسكو، وجعلت من وقف إطلاق النار على أوكرانيا هدفا أول لها، وأعربت عن الاستعداد لاستضافة الرئيسين، الروسي بوتين والأوكراني زيلينسكي، على أراضيها سعيا إلى نزع فتيل الأزمة، واستكشاف طرق السلام، فلمّا مانع بوتين في اللقاء مع من يصنّفه "دمية في أيدي الغرب"، واصلت أنقرة مساعيها، ونجحت في جمع وزيري خارجية البلدين في مدينة أنطاليا، حيث أجريا، بحضور وزير خارجية تركيا الذي ترأس الاجتماع، أول محادثات وزارية بين الطرفين، على الرغم من فشل الاجتماع في التوصل إلى تفاهم ذي شأن، فالطرف الروسي يعرف أن تقويض الدولة الأوكرانية وتشريد مواطنيها هما "حرب على الغرب لإرساء نظام دولي جديد"، هذا باستثناء التوصل إلى تفاهماتٍ بشأن "الممرّات الإنسانية"، وهي تفاهمات تعرف موسكو كيف تنتهكها كما فعلت على الدوام عقب انعقاد مؤتمرات أستانة وسوتشي المتعلقة بالأزمة السورية خلال السنوات القليلة الماضية.

وأمام تصاعد الحرب الروسية حتى "تتحقق الشروط والأهداف" التي جرى وضعها لهذا الغزو، وتتمحور حول نزع سيادة أوكرانيا واستقلالها تحت عنوان نزع السلاح، واصلت أنقرة جهودها في اتصالاتها المكثفة مع أطراف أوروبية وأميركية، حيث استقبلت، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، عدداً كبيراً من مسؤولي الدول والمنظمات، بينهم مسؤولون رفيعون في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وقد جاء انعقاد "منتدى الدبلوماسية"، في نسخته الثانية في أنطاليا بين يومي 11 و13 مارس/ آذار الجاري، بمشاركة ساسة وأكاديميين ومفكّرين وقادة رأي ودبلوماسيين، إضافة إلى رجال أعمال من أنحاء العالم فرصةً لتكريس الدعوة إلى وقف هذه الحرب، وقد حمل شعار المنتدى "إعادة بناء الدبلوماسية"، وبدا هذا المحفل أكبر مظاهرة دبلوماسية حتى تاريخه، للدعوة إلى وقف الحرب على أوكرانيا.

تسعى أنقرة، بلا كلل، إلى تزيين فرصة السلام في أنظار المسؤولين الروس، ومدّ يد العون لهم للنزول عن الشجرة العالية

وكان من شأن هذا التطور المأساوي أن أبدت دول أوروبية عديدة انفتاحها على أنقرة وتأكيدها على أهمية هذا البلد، وعلى دوره في إرساء الأمن والاستقرار، كما تحسّنت مجدّدا علاقات حلف الناتو بالعضو المشارك تركيا، وزار مسؤولون من الحلف في هذه الغضون تركيا، بمن فيهم أمينه العام، ينس ستولتنبرغ. وبينما أعلنت الرئاسة التركية عن استعداد الرئيس أردوغان للمشاركة في القمة الاستثنائية لزعماء دول الحلف يوم 24 مارس/ آذار الجاري في بروكسل، فإن من المنتظر أن يقف موقفا غير بعيد عن الموقف الحازم لبقية دول الحلف في مناهضة الغزو الروسي ودعم أوكرانيا بالأسلحة والمعدات العسكرية. وتدرك أنقرة مسبقا أن مشاركتها في هذه القمة سوف ترفع حُكماً من سقف موقفها السياسي المؤيد لسيادة أوكرانيا. وقد جرى الإعلان عن مشاركة أردوغان في قمة الناتو المزمعة، بالتزامن مع وجود رئيس الدبلوماسية التركية الدينامي، مولود جاووش أوغلو، في موسكو، ولقائه نظيره الروسي، سيرغي لافروف، حيث كانت مناسبة للتشديد على الموقف التركي بأولوية وقف الحرب التي "يخسر الجميع من جرّائها" على حد قوله. وفي موسكو التي تشن الحرب على البلد "الصغير" المجاور، ينفرد الروس الحاكمون بوصف القيادة السياسية المنتخبة فيه بأنها تمثل "النازية". ومع إعداد هذا المقال، كان جاووش أوغلو يستعد لزيارة كييف لاستكمال جولته التي تدعم المفاوضات التي تجري تحت النار بين موسكو وكييف، وحيث تسعى موسكو إلى انتزاع الحق في الاستقلال من أيدي ممثلي شعب أوكرانيا، مع تقديمها أول تنازل من نوعه بأن تقف أوكرانيا على الحياد إزاء التكتلات الدولية، مثلها مثل النمسا والسويد، وهما عضوان في الاتحاد الأوروبي، وهو ما رفضه الجانب الأوكراني في المفاوضات، علما أن نزع السلاح، وهو هدف روسي مركزي، عبّر عنه بوتين في آخر خطاب له، لا يجعل من أوكرانيا دولة على غرار السويد والنمسا، بل على شاكلة "رابطة الدول المستقلة" الملحقة بموسكو، وهي دول سبق لها أن انضوت في المنظومة الاشتراكية في عهد الاتحاد السوفييتي الذي يسعى بوتين إلى بعثه بدون وعود الشيوعية، وإنما استنادا إلى "عظمة روسيا وأمجادها".

بعيدا عن هذا، تسعى أنقرة، بلا كلل، إلى تزيين فرصة السلام في أنظار المسؤولين الروس، ومدّ يد العون لهم للنزول عن الشجرة العالية التي صعدوا إليها، ما تسبب بعزلتهم عن المجتمع الدولي، وإيقاع عقوبات بالغة الشدّة باقتصادهم وبروابطهم مع العالم الخارجي. وما زالت تعمل على استضافة بوتين وزيلينسكي على أراضيها، إيذاناً بوقف إطلاق النار. وقد أخذت موسكو تبدي استعداداً أكبر للقاء الزعيمين في بلد ثالث، ومن دون استبعاد استخدام الدبلوماسية في هذه الآونة، للتمويه على حربها التي تلقى تأييد عدد محدود من الديكتاتوريات المعزولة في العالم.