مجتمعات ما بعد الحقيقة

مجتمعات ما بعد الحقيقة

04 مايو 2022

(سامي بن عمر)

+ الخط -

لم يعرف الإنسان في العالم كراهيات جذرية كما يعرفها اليوم. كأنها نهاية لعصر الأفكار التعددية والتمازج، وصعود القيم الجديدة المتطرّفة. العالم يشهد صعود أيديولوجيات مصطنعة قائمة على رفض الآخر، وعلى قتل الآخر من نوع أشكال العنف التي تختزنها الحرب الأوكرانية، ونمو الأفكار القومية المتشدّدة. كأنها عودة إلى بداية آخر عقد من القرن الماضي الذي شهد إطلاق عبارة الكاتب الأميركي – الصربي، ستيف تيسش (1942 - 1996)، "ما بعد الحقيقة"، في الشؤون السياسية والثقافية. مصطلح تكرس مع الكاتب الأميركي رالف كييس (2004) في كتابه "عصر ما بعد الحقيقة" عن الصدق والخداع في الحياة المعاصرة والتحولات التي برزت في سلوك الأفراد والمجتمعات. ما سماه "سلوك التضليل العفوي". وما يسميه معجم أكسفورد "بناء الظروف التي تكتسب فيه الحقائق الموضوعية تأثيراً أقل في تشكيل الرأي العام، مقارنة بتأثير ما تفضله العواطف والقناعات الفردية، التي يجرى إيثارها على الحقائق العلمية".

شكلت الانتخابات الرئاسية في فرنسا حدثاً بحد ذاته. ليس بما يتعلق بمستقبل فرنسا وتماسك الساحة السياسية أو تفتتها، بل لأنها تشغل أسئلة المهتمين بالعملية السياسية في أوروبا مجتمعة، وتحتل فرنسا نقطة مركزية في الاتحاد الأوروبي، وعلى ضوء مسارات حرب أوكرانية على أرض أوروبية. ذلك أن صعود القوى اليسارية واليمينية المتطرّفة والتحالف الغريب لأحزاب المعارضة ضد الأحزاب التقليدية يشكل لحظة أوروبية حرجة جداً، مع صعود موجة شعبوية يخشى أن تتوسّع أكثر، ما يشكل اختراقاتٍ في مسار الديمقراطية الأوروبية. لحظة حرجة في وقتٍ تخوض فيه أوروبا مواجهة مفتوحة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وما يفتح "شرعية" الانتخابات المجرية على نحو أوسع، وتحقيق فيكتور أوربان انتصاراً في الانتخابات التشريعية المجرية أثار قلقاً سببه، وفق توصيف رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، "انحراف عن مبادئ الاتحاد الأوروبي والمسّ بأسس دولة القانون، ونتيجة مقارباته المعادية لتوجهات بروكسل"، والأنظار تذهب مجدّداً إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في فرنسا.

لم تعد المجتمعات الأوروبية في حالة واحدة، ولا الإنسان في حالة واحدة. صارت المجتمعات مثل كثبان الرمل "تنهار بسرعة"

لم تعد المجتمعات الأوروبية في حالة واحدة، ولا الإنسان في حالة واحدة. صارت المجتمعات مثل كثبان الرمل "تنهار بسرعة وتتحوّل بسبب الرأسمالية والثورة التكنولوجية والصناعية الرابعة. ولذلك هناك ما تسمى اليوم المجتمعات "السائلة"، أو المجتمعات "السيائلة". لقد كانت الحقائق فيما مضى، وفق تعبير المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم (1937-1994) "تغتال تباعاً تحت لافتة الشعارات فيكسب القاموس كلمة، ويخسر الواقع حقيقة". هو الواقع الذي سماه أفلاطون (384 - 428 ق .م" الأكاذيب النبيلة".

ترتبط تصريحات المرشّحين في لانتخابات الرئاسية الفرنسية بهذا المصطلح مع صعود اتجاهات متطرّفة وظاهرة أثارت قلقاً بشأن تغيير الإدراك العام للقضايا والأزمات، بما يتوافق مع مصالح الفئات المتطرّفة على حساب الأحزاب التقليدية. مواقف مرشّحة حزب التجمع الوطني ماري لوبان وبرنامجها الانتخابي يؤدّيان إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي من دون مشروع سياسي، وإجراءات أعلنت عنها تؤدّي إلى تعطيل الوضع الاقتصادي في أوروبا من دون أي نتيجة كبيرة. ونرى حلفاء في فرنسا يؤيدون توجهات أوربان المشدّدة ضد المهاجرين، وهم مثله من الفئة غير المقتنعة بالرئيس الأوكراني، زيلينسكي. ويعكس ما شهدته الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية تضاربا واضحا وتشتتا وتعبيرا عن أزمة الشباب الأوروبي. لذلك التحدي الفعلي هو ما بعد الانتخابات. والسؤال بشأن الغالبية في البرلمان المقبل، وحول نسبة الممتنعين عن التصويت، وكيفية التعامل معها، وهي نسبة ليست قليلة... هي الحزب الأساسي في فرنسا (28%).

العولمة نهضت بالإنسان من العصور القديمة، وإن كان الاستعمار فرض تحولاتها بالقوة

والتحدّي هو ما بعد الانتخابات إزاء الكم من مشاعر الرفض للنخب وتقديم الشباب الرأسمال المالي والملكية على الرأسمال الاجتماعي والثقافي، والانحدار في مستوى التعليم العالي في فرنسا مقارنة مع غيرها من الدول الأوروبية، وإعادة هيكلة الأولويات والإصلاحات وزيادة التقديمات الاجتماعية، وتزايد نسبة النساء التي يعلن عائلاتها أو يقمن بالواجب العائلي نحو 50%. ويبقى السؤال عن وجه أوروبا المستقبلي، إذ تنعدم ثقة المواطن البسيط بالطبيعة السياسية التي لم تعد قادرةً على تطبيق الديمقراطية وتحقيق الوعود الانتخابية. المثال التونسي ليس بعيداً كثيراً، حين يعمد الرئيس قيس سعيّد إلى المسّ بأسس دولة القانون، ويقيّد استقلال السلطة القضائية، ويضع اليد على وسائل الإعلام والتمنع عن المشاركة السياسية. ما نريد أن نقوله إن الفكر التقدمي الليبرالي ليس حتمية، وفكرة تكرار الزمن مع الفكر الرجعي على حد تعبير نيتشه (1848-1900) وماركس (1818-1883) ما تزال موجودة. والمبادئ التي قامت عليها التنويرية وحقائق أساسية من تطور الإنسان، ومن تعددية المجتمعات، ومن اختلاف الآراء. هذه الحقائق تنهار اليوم إلى درجة وصلت معها ظواهر التنكّر للديمقراطية كحتمية وسقوط النظرية التقدّمية مرة ثانية بعد الهزّة الأولى في الحرب العالمية، عندما اكتشف العالم هول الفظائع وإزهاق ملايين الأرواح، كأن الحرب الأوكرانية المستمرّة صارت وراء الطبقة المتوسطة في العالم التي أبدت متابعة في بدايات الأزمة. وعبرت الانتخابات الفرنسية عن تطوّر المشاعر ضد السياسة في جو أوروبي غامض، تضاف إليه مشكلة المهاجرين الإسلاميين والعرب، وتفاوت المستويات الثقافية، وتشابك اتجاهات الهجرة وعدم الانضباط في الحياة المدنية، علماً أن تأثير هذا الصوت مهم جداً في الانتخابات التشريعية المقبلة .

لا حقائق بدون وقائع ، هذه هي فلسفة جان بول سارتر (1905 - 1980) وسيمون دو بوفوار (1908 - 1986) وسواهما. وإذا كان الشك بالحقيقة فلسفيا في الماضي أو منهجيا، كما عند ديكارت (1596 - 1650) ومحمد الغزالي (1917 - 1996)، فإنه صار اليوم توجّها إلى رفض الواقع نفسه، واختراع لواقع جديد قائم على الشعبوية والأكاذيب واختلاق وقائع جديدة، باعتبار أن ليس هناك حقيقة واحدة. لهذا فإن عنوان "مجتمعات ما بعد الحقيقة" يجسّده أولئك الشعوبيون في محاولة تغيير الوقائع خدمة لأغراض سياسية أو استهلاكية تطال حتى "سلّة خبز العالم" على خلفية الحرب القائمة. وتطال التغييرات المناخية ومصير الأرض والأدوية والأمراض واللقاحات، وكل منجزات العولمة، فالعولمة نهضت بالإنسان من العصور القديمة، وإن كان الاستعمار فرض تحولاتها بالقوة.

البحث يطول بين شعبوية يسارية وشعبوية يمينية، واتسعت أطرها لضرب الانفتاح الذي انبثق من عصر التنوير على مستوى الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والسياسية

أحزاب وجهات عدة كذبت على شعوبها من مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، وأنها توفر على بريطانيا 350 مليون جنيه أسبوعيا وهذا غير صحيح .. وبالعودة الى فيكتور أوربان من الشعبويين البارزين الذين يطرحون نظاماً غريباً تحت ما تسمّى "الديمقراطية اللاليبرالية"، وفرض ديكتاتوريته، فاستعمل المصطلح في غير معناه ذريعة للقول "إن الديمقراطية وراء مصاعب المجر والعالم"، وهذا غير صحيح، مناقضاً فكرة الديمقراطية الليبرالية نفسها وقواعدها .. هذا ما جسّده أيضاً شعبويا الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي حارب الاتحاد الأوروبي، وكذب في حملاته الانتخابية في أمور كثيرة، منها أن "أوباما ليس أميركيا"، وتبين أن الادعاء خاطئ. قد تتمدّد الشعبوية الديكتاتورية إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أو سواه، والبحث يطول بين شعبوية يسارية وشعبوية يمينية، واتسعت أطرها لضرب الانفتاح الذي انبثق من عصر التنوير على مستوى الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والسياسية.

يعيش العالم اليوم، ولأول مرة، من دون أفكار. العالم معزولٌ من الأنظمة والأحزاب وفي غيتواته أو كانتوناته كما يحصل في إسرائيل التي تحاول أن تكون توسّعية مع المهاجرين الجدد الأوكرانيين، على حساب طمس حقيقة وجود شعب فلسطيني شامل على أرضه .. كأنها عودة مضادّة إلى التقاء الشعوب على بعضها، والتواصلية الإنسانية بعد الحرب العالمية الثانية. .. عودة إلى ثلاثينات القرن الماضي التي تسبّبت بالحروب، وبتساقط البيئات السياسية والحزبية والدينية والاجتماعية.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.