متلازمة الرسائل

متلازمة الرسائل

04 نوفمبر 2022
+ الخط -

تقول مصادر إنّ آدم أول من صام عن الكلام. بمعنى أنّ البشرية، العاقلة على الأقل، عرفت الصّمت علاجاً، أو عبادةً، أو تأمّلاً، أو لإنعاش حياة زوجية تأكلها الخلافات، منذ سلالتها الأولى. ثم تعدّدت أسباب الصّيام عن الكلام، وأهمّها كفّ الأذى، لمن لا يقول شيئاً في مكانه أبداً، على سبيل المثال. وصار نذر الصّيام عن الكلام، من الممارسات التعبّدية والأعراف السائدة في ثقافات عديدة، فزكرياء "قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً، قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكلمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلَّا رمزا". لكن الصّيام عن الكلام لم يُؤخذ فعلا يسيرا. بل اعتُبر تضحية عظمى، وقرباناً كبيراً، فاق الصّيام عن الطعام. كأنّ التواصل اللّغوي البشري ضرورة وجودية.

من جانب آخر، نستدلُّ بالعلم، لفكّ العقدة عن المنشار، في الصمت الحكيم، والإجباري. فخلال عملية انتقال النّماذج العلمية، لم يكن علماء الفيزياء يقبلون الرياضيات الحديثة، ما أدّى إلى انقطاع العلاقة الغرامية بين الفيزياء والرياضيات، بل لم تعُد إحداهما تُحادث الأخرى، حتّى لو التقتا في الطريق، وجها لوجه. كما عبّر عن ذلك جيمس غراي مؤلف "نظرية الفوضى"، واصفاً العلاقة بين العِلمين خلال منتصف السّتينيات من القرن الماضي بالعداوة. لكن بعدها بسنوات توصّل العلماء من الحقلين إلى نظرية الفوضى، لحلّ ألغاز قديمة وجديدة، لم تنجح الأساليب التقليدية، والقطيعة بين العلمين في حلّ لغزها وقياسها.

والعداوة بين الفيزياء والرياضيات، رغم تقاربهما، تؤدّي بنا إلى طرح العلاقة بين التواصل المباشر وذاك الافتراضي. حيث بشّر أعداء تكنولوجيا التواصل، باستغنائنا عن الحديث المباشر، وتعويضه بالافتراضي، بحيث لا يلتقيان. ربما فعل بعضنا ذلك، ربما أرهقتنا كثرة المنصّات، والرسائل التي تُمطر من "واتساب" على وجه الخصوص، كالحجر. واستغنينا عن الحوار المباشر لأجل عيون الافتراضي طوعا أحيانا أو كرها بسبب "الإغراق التواصلي". والإغراق مصطلحٌ تجاريٌّ يصف قيام دولة "نموذج الصين مثلا" أو شركة عالمية بإغراق السّوق بكمية كبيرة من المنتجات الرّخيصة، ما يؤدّي إلى إفلاس المنافسين.

لكن الذي حدث لم يتوقّعه حتى أكبر المتشائمين، فصرنا، رغم وجودنا على وسائل التّواصل، لا يتواصل بعضنا، ولا ينشر ولا حسّ له ولا خبر. لكنه موجود بحكم النقطة الخضراء التي تشهد على الجميع، أو العلامة الرمادية في الرسائل، أو في لقاءٍ مباشر. حين يهلّ أحدُهم عليك وهو يعرف كلّ حركة قمت بها على "فيسبوك". أنت تنسى، وهو لا ينسى، ولا يَغمض له جفن عن شواردها. إنما يفضّل أن يكون على جانب واحد، في عملية التواصل، جانب المستقبِل لا المرسِل.

بفعل ذلك، لم ننصرف عن الحديث مع الأسرة داخل البيوت ومع الزملاء في العمل، ومع الأصدقاء في المقهى. بل صرنا ننفر من التواصل الافتراضي أيضاً. لأن الإغراق سبب إشباعا كبيرا من فيض الرسائل. فلم نعد نقبل حتى فتحها، ويفوتنا المهم منها بسبب هروبنا من البقية. في مواجهة المصابين بقهر إرسال الرسائل رغم نفورنا منها، صراحةً، أو بتجاهلها التام. لكنهم لا يكترثون، بل لا يكتفون بأن تحضُر أخبارهم على "فيسبوك"، و"إنستغرام"، وفي "تويتر"، لأنهم أصدقاؤك في هذه المنصّات كلها. بل يشعرون بأن عليهم أن يدسّوها في رسائل، ليتأكّدوا أنك على علم، مثل من يُمسكك من عنقك ويدسّ رأسه في طبقه أو طنجرته حتّى. لكن الصّائمين عن الكلام لن يقعوا في الفخّ، بل إنهم لا يجدون حرجا في تجاهل الرسائل في بعض الأوقات، حفاظاً على سلامتهم العقلية وتوازنهم النفسي. ففي علم النفس تتمثل فوائد الانقطاع عن الكلام، المسموع والمكتوب، في راحة للعقل، واسترخاء للنفس من عناء الكلام والتخلص من القلق عبر تفادي أسبابه، وأولها الكلام والضغوط الاجتماعية والنفسية. تخيل أنها أيضا تفيدك على المستوى نفسه حين تنقطع عن التواصل التكنولوجي كتابة أو تسجيلا صوتيا أو اتصالا مباشرا. فهي تستهلك جهدا أكبر مما يستهلكها التواصل المباشر. فما تكلفنا إياه مكالمة هاتفية من طاقة أكبر من طاقة الحديث المباشر ساعة. لعل الوصف الملائم لهذه الحالة يتمثل في "الإعاقة التواصلية"، حيث يعجز الإنسان عن التواصل، كأنه فقد أدوات الخلايا المسؤولة عن الكلام والتفاعل الاجتماعي. ما يجعل الصّيام عن الكلام علاجاً ومرضاً في الآن نفسه.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج