ما كان متوقّعاً وما لم يكن ليُصدَّق

ما كان متوقّعاً وما لم يكن ليُصدَّق

13 مارس 2024
+ الخط -

لا تتوقف الحرب على غزّة عن فضح فقر مخيلتنا: معظم ما كنّا لنتعامل معه في الماضي القريب على اعتبار أنه المستحيل بعينه، يترجم نفسه يومياً واقعاً شديد اللؤم منذ 7 أكتوبر. لو قيل لنا في السادس من أكتوبر إن العالم سيكون قذراً إلى درجة تصبح عنده المطالبة بوقف إطلاق النار، بهدف إنهاء إبادة شعب، جُرماً يحاسَب عليه قانونياً في عديد من بلدان غربية خصوصاً، ويخسر بسببها موظفٌ وظيفته، ويُطرد طالبٌ من جامعته، ويُقطع تمويلٌ عن فنان وتُرمى أعمال تشكيليّ خارج متاحف، لما صدّق أحد على الأرجح المزحة السمجة تلك. لو أخبرَنا أحدُهم أن دمويي إسرائيل لن تتم إدانتهم إن هم تباهوا بقتل 30 ألف فلسطيني في خمسة أشهر، وأن أحداً في البلدان الفاعلة لن يُحاسِب أرفع مسؤولي تل أبيب لأنهم قالوا إن الفلسطينيين حيوانات يجب القضاء عليهم جميعاً، وإن قطاع غزّة لن يبقى موجوداً حتى كجغرافيا، وأنّ من لم يهرب ومن لم يعتقل ومن لم يمت بالقصف والرصاص سيموت جوعاً، وأن الدور آتٍ على الضفة الغربية قريباً... لو أخبرونا بهذا كله، أغلب الظن أن المطالبات كانت ستنهال على الراوي بالتوقّف عن الهذيان. أمورٌ كثيرة ما كانت لتُهضم حتى عند أكثر الرؤيويين قدرة على أن يُبصروا ما لا يمكن أن يراه غيرهم آتياً، كأن تضعف أوروبا بهذا الشكل أمام الابتزاز الصهيوني فتستعير مكارثية أربعينيات القرن الأميركي الماضي وخمسينياته، لتطبقها أو تحاول أوساطٌ في دولها تطبيقها اليوم، إلى درجة تصبح البطّيخة ملاحَقة بما أن مجرد بقر بطنها والتقاط صورة معها يعني تأييداً للحق الفلسطيني، كون تلك الفاكهة تحوي كل ألوان العلم الفلسطيني (أسود وأحمر وأخضر وأبيض).

في المقلب الآخر، أمور كثيرة ما كان يجب أن تفاجئنا على شناعتها، مثل سلوك أنظمة عربية حيال الحدث الفلسطيني منذ 7 أكتوبر، ودرجة جُبن حكّامها وقصر نظرهم السياسي وتشجيعهم سرّاً إسرائيل على عدم التوقف عن حربها. والحال أن حكّاماً عرباً كثيرين وحاشيتهم من مستشارين ومساعدين يعجزون عن إدراك ما يخدم مصالحهم. لا مطلوب منهم أن يكونوا طليعيين ولا أبطالاً تاريخيين، بل أن يفعلوا ما يفيدهم كحكّام ويفيد وزن بلدهم سياسياً ونفوذه. كان يمكن أن يحصل ذلك لو قرّروا القيام بتدخل سياسي حميد في الحرب على الفلسطينيين لإيجاد حلول ولإنقاذ بشر من الموت، لكنهم ظلّوا أمينين لإرث أسلافهم لناحية أن التدخّل في الشأن الفلسطيني لا يكون حلالاً إلا إذا كان تخريبياً. تُرجم ذلك عقوداً، تحريكاً لفصائل مسلحة زمن الثورة الفلسطينية في المنافي، ورشوة لقيادات فيها، وشراء لذمم مسؤولين منها وتمويلاً لحروب أهلية ولأحقاد تجاه بلدان أخرى، ولنا في المدرسة البعثية بفرعيها العراقي والسوري مثالٌ ساطع، وفي التجارب الناصرية والقذّافية والخليجية تاريخ مديد. أما التدخّل السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والعسكري (لا لشنّ حرب بل للتلويح بأدوات القوة) من أجل وقف المذبحة، وإنقاذ شعبٍ يُباد، وكسر الحصار عن غذائه وشربه ودوائه، وإحداث توازن قوى سياسياً يُصرَف ضغطاً على إسرائيل في مفاوضات جدّية تكون نتائجها مُلزمة، فهذا كله من الصنف الذي لا يقوى عليه مسؤولون عرب من محترفي إضاعة الفرص ومن الفاشلين في إدارة دكّان الحي، فما بالك بحكم بلدان.

لو لم ترضخ دول عربية مثل مصر لأوامر إسرائيل بمنع إدخال مساعدات إلى غزّة برّاً عبر معبر رفح، لكنّا فوجئنا حقاً. لو تجرّأت كل الدول العربية المطبعة مع إسرائيل، ممن تَحسب أميركا ألف حساب لضمان ولائها، على قطع كل العلاقات مع إسرائيل حتى يتوقف العدوان وينسحب الاحتلال من القطاع لكي يحصل تفاوض سياسي حقيقي، لكنّا صُدمنا. لو لم يقترح عبد الفتاح السيسي على إسرائيل تهجير الغزّيين إلى صحراء النقب بدل سيناء منذ أول أيام الحرب، لكان ذلك فعلاً سبباً للاستغراب.

أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري