ما بعد الزلزال

ما بعد الزلزال

09 مارس 2023
+ الخط -

لم أكن أعرف ماذا سأجد ما بعد الزلزال، فسورية، أو هذا الجزء منها بين نهري العاصي والفرات في الشمال، كان مسرحا للكوارث المتنوّعة خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية. .. "تعوّدنا على الكوارث واللامبالاة"، قال أحد الأطباء "بس الحمد لله"، أضاف، مع ابتسامة وكاسة شاي.

القصف بالبراميل وما قبله القنّاصون والتعذيب والسجن، والسلاح الكيميائي بنوعيه غاز الأعصاب والغاز الخانق، واستهداف المشافي وسيارات الإسعاف، وقذف القنابل العنقودية والحصار حتى الموت للأطفال وغيرهم. ولا تنسى القصف المزدوج (double tap)، وهي لعبة أتقنها النظام والروس، حيث يقصفون إحدى الحارات السكنية أو المشافي، شفقة على المرضى لعدم توفّر الدواء والمضادّات الحيوية والعلاج الكيماوي للسرطانات، ويقصفون المخابز (كان 2015 عام المخابز، لأن السوريين يحبّون الخبز، والنظام يحب قتل السوريين الذين يقفون بانتظار خبزهم). وعندما تأتي سيارات الإسعاف والإطفاء لإنقاذ الأطفال والنساء المهروسين تحت حيطان بيوتهم المتواضعة، والمدمّرة، تقصف طائرات الهليكوبتر الروسية المسعفين لتلقينهم درسا، ولتُثبت لهم أنه لا حد لإنسانية النظام وبوتين، ثم النزوح المتكرّر، حتى أصبحت إدلب عاصمة النزوح، ففيها مليون ونصف مليون نازح في الخيام من أصل مليونين ونصف مليون نازح من كل مدن سورية وقراها، لأن النظام أراد أن تكون إدلب عاصمة الطبخ السوري، ففيها كل تنوّع المائدة السورية من درعا إلى دير الزور إلى حمص ودمشق وداريا وحلب والساحل وحماه والمعرّة وغيرها. نزحت معظم العائلات هنا عدة مرّات، والرقم القياسي هو 14 أو 15 مرة، لأن السوريين يحبون النزوح والعيش في الخيام، لأنها تذكّرهم بألف ليلة وليلة ولورنس العرب، ولا ننسى عودة عشرات آلاف اللاجئين "الطوعية" من تركيا عبر الجدار العالي والجميل. ثم جاءت جائحتا كورونا والكوليرا، ولا يغيب البرد القارس في الشتاء والحر الشديد في الصيف من تأثير التغير المناخي الذي هو جزءٌ من المؤامرة الكونية التي لا تنتهي، ثم أتى الزلزال.

"استقبلت الناس الزلزال بشكل مختلف عن الكوارث السابقة الناجمة عن عمل الإنسان"، قال أحد الأطباء. "رغم الدمار والموت والقصص المؤلمة، كان هناك صبر عجيب. ربما لأنها كارثة طبيعية، أو لأن الناس تعوّدت على الكوارث"، وهذا ما يسمّى النمو الروحي.

تسابق الناس في سورية على رفع الأنقاض بأيديهم العارية وإمكاناتهم الضئيلة

لم ينتظر الناس الأمم المتحدة ضدهم والمجتمع الدولي المنافق بعد الزلزال، وتسابقوا على رفع الأنقاض بأيديهم العارية وإمكاناتهم الضئيلة. وفتح الناس بيوتهم لجيرانهم ونازحي الزلزال الجدد، وتسابقوا بتقديم الطعام وطهي الوجبات والتبرّع بالألبسة التي تقي من البرد القارس الذي تآمر مع الزلزال، ليزيد من مرارة الأوضاع. "لولا تكاتف الناس وتعاضدهم منذ اللحظة الأولى، لكانت أعداد الضحايا أضعافا مضاعفة"، قال لي أحد الأطباء.

لم يقصّر النظام، وقصف أماكن نجت من الزلزال، ليذكّر الناس بأنه موجود وجاثم على صدورهم، حتى يزيحه التنديد الشديد وإبداء القلق من الأمين العام للأمم المتحدة ضد أطفال سورية الذين يحلمون بأن يكونوا أطباء ومهندسين في المستقبل، إذا أتاح لهم النظام وبوتين وإيران والمجتمع الدولي تلك الفرصة، وتوفرت لهم مقاعد وأقلام وأساتذة وخيمة كبيرة للتدريس، ولم يتاجر بهم تجّار البشر والسياسة والمخدّرات والتطرّف ومصّاصو الدماء.

"الحمد لله منيح ما كانت المصيبة أكبر"، قالت إحدى النساء لي، ووجهها يضجّ بالاكتئاب والقلق والخوف والأذيات النفسية، المتراكبة واحدة فوق الأخرى خلال 12 سنة من القصف والاستهداف والكيماوي والنزوح واللامبالاة الأممية وتجاهل الدول العربية الشقيقة والمسلمين، المليار ونصف المليار، في كل أنحاء العالم (لم يخرجوا بمظاهرة واحدة لدعم السوريين تحت البراميل، ربما لأنهم ينتظرون أن يحرق أحد أعداء الإسلام مصحفا في سورية حتى يخرجوا بالمظاهرات مرة واحدة)، والعيش في سجن كبير محاط بجدار عالٍ وجميل، وهي تبحث عن خيمةٍ لزوجها المقعد وابنها المغلوب على أمره وعزيز النفس الذي رفض أن يأخذ مائة دولار رغم حاجته وزوجته وأبنائه الأربعة، بعدما قتل الزلزال ابنتها الحامل في الشهر السابع وزوج ابنتها وأولادها الثلاثة مثل الزهور البريئة، ربما رحمة بهم أو حتى يرجعوا إلى دينهم، كما قال أحد المشايخ الذي آتاه الله العلم واطّلع على علم الغيب، في بيتها الذي انهدم بأكمله في مدينة حارم، بعد أن نزحت إليه من معرّة النعمان بعد أن استولى عليها النظام. "أريد خيمة في أي مكان إلا حارم. لا أريد أن أعود إلى حارم، لأنها تذكّرني بابنتي وأولادها الأربعة بعد أن دفنتهم هناك".

زاهر سحلول
زاهر سحلول
طبيب سوري أميركي، رئيس منظمة ميدغلوبال