ما الذي بقي من الثورة التونسية؟

ما الذي بقي من الثورة التونسية؟

20 فبراير 2022
+ الخط -

سؤالٌ مشروع، بل مطلوبٌ طرحه اليوم بعد ما يزيد عن عشرية كاملة من عمر الثورة التونسية، خصوصا في ظل حالة التراجع المريع التي شهدتها التجربة التونسية، بعدما أعمل فيها قيس سعيّد معاول الهدم والتقويض "الممنهج": فما الذي بقي من الثورة التونسية، بعد كل هذه الارتداد، وما الذي استبقاه انقلاب قيس سعيّد من صيحات الحرية والكرامة التي جلجلت بها حناجر آلاف التونسيين في المناطق المحرومة وفي المدن الكبرى قبل الثورة وبعدها؟

الواضح اليوم أن الموجة الشعبوية قد أتت على كثير من المكتسبات السياسية والحقوقية والتشريعية التي جاءت بها الثورة التونسية من الجذور، وفي مقدمة ذلك الحكم المقيّد بالدستور وتوزيع السلطات، وحرية التنظم والتعبير واستقلالية الإعلام والصحافة والقضاء وغيرها، حيث باتت اليوم تجتمع كل السلطات بين يدي قيس سعيّد الذي نصّب نفسه حاكما مطلقا بلا حسيب أو رقيب، وكأن تونس تسرع الخطى نحو النظام الجماهيري المقبور الذي بشّر به معمّر القذافي منذ أواخر ستينيات القرن الماضي.

تبدو الأمور وكأن قوس الديكتاتورية في طريقه إلى أن يكتمل في المنطقة بالتحاق آخر حلقات الربيع العربي بالمشهد الاستبدادي العربي

ذهب في ظن التونسيين، على امتداد السنوات الأخيرة، أنهم محصّنون بالكامل من عدوى الدكتاتورية، وأنهم قد قطعوا إلى غير رجعة مع نظام الحكم الفردي والديكتاتوري الذي خيّم على البلاد منذ بداية استقلالها في خمسينيات القرن الماضي، فإذا بقيس سعيّد يعيدهم إلى المربع الأول، ناسفا كل ما بنوه خلال العشرية الأخيرة بعد تراكم تضحيات أجيال متتالية من أجل نظام ديمقراطي تعدّدي. فمنذ سنة 1938 خرج التونسيون في مواجهة الاستعمار الفرنسي، مطالبين بالبرلمان الحر والمستقل، ومنذ ما يزيد عن قرن (1920) تأسّس حزب الحركة الوطنية بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي حول مقولة الحكم المقيد بالدستور والمؤسسات، ولذلك لم يكن مصادفة أن يسمّي حزب الحركة الوطنية نفسه الدستوري الحر.

تبدو الأمور وكأن قوس الديكتاتورية في طريقه إلى أن يكتمل في المنطقة بالتحاق آخر حلقات الربيع العربي بالمشهد الاستبدادي العربي. تنوّعت أسباب هذا الانحدار وتعدّدت أشكاله في المنطقة، ولكن النتيجة كانت واحدة تقريبا، عودة السلطويات إلى تصدر المشهد. في مصر أخذت الثورة المضادّة شكلا مغلظا وفجّا من خلال انقلاب العساكر، فيما أخذت في ليبيا واليمن وسورية طابع الحرب الأهلية، أما في تونس فكانت أقرب إلى ما يعبّر عنه بالانقلاب الذاتي، أي استحواذ رأس السلطة على بقية مكونات الحكم عبر الأجهزة الصلبة، وكان ذلك في إطار موجة شعبوية تسلّلت عبر شعارات الثورة نفسها، من قبيل "الشعب يريد" و"العصفور الذي لن يعود إلى القفص" و"التطبيع خيانة عظمى" وما شابه ذلك، لكنها مهما خاتلت وناورت تظلّ، في نهاية المطاف، حلقة جديدة من حلقات الثورة المضادّة لا غير.

كأن قوانين الجغرافيا السياسية هنا تغلبت على إرادة الفاعلين السياسيين وطموحاتهم، فقد بقيت تونس إلى ما يزيد عن عشرية تجدّف ضد اتجاه الريح، وتتحرّك خارج المزاج السياسي العام في المنطقة التي تتسم بصعود السلطويات بوجهيها، العسكري والمدني، وقد خارت قواها، في نهاية المطاف، والتحقت مؤقتا على الأقل ببقية المشهد العربي.

خيّل للتونسيين أنهم يمثلون حالة استثنائية في المنطقة، وأنهم قد أضحوا في منأىً عن تأثير المحيط بعد ثلاث محطات من الانتخابات التشريعية ومحطتين من الانتخابات الرئاسية إلى جانب انتخابات محلية وتوزيع أفقي للسلطة فكّك أسس السلطوية المركزية، لكن المفارقة العجيبة هي الاندساس في قلب النظام الديمقراطي بغرض هدمه وتقويضه من الداخل.

التعبير عن الضيق والتذمر لا يعني بالضرورة أن التونسيين يرغبون في العودة إلى مرحلة ما قبل الثورة الكريهة

منذ دخوله قصر قرطاج، راهن قيس سعيّد على تأزيم الوضع السياسي إلى الحد الأقصى من خلال خوض معارك الصلاحيات والتأويلات الدستورية ذات الصلة بالتموقع السياسي، بعيدا عن مشاغل التونسيين وأولوياتهم، وقد توّج ذلك بتعطيل البرلمان بزعم استخدام صلاحياته الدستورية (فصل 80) الذي يتحدّث عن الخطر الداهم، ثم اتجه إلى إلغاء الدستور نفسه، وفتح الباب أمام العمل بالمراسيم. وبموازاة ذلك، حل الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد، والهيئة العليا لمراقبة دستورية القوانين، ثم استدار، أخيرا وليس آخرا، باتجاه تفكيك حصون القضاء لإلحاقه والسيطرة عليه، بعدما نفى عنه طابع السلطة المستقلة بالقول إنه مجرد وظيفة لا غير، ولا يُستبعد أن تتجه سهامه في المرحلة المقبلة نحو الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية لفرض نفسه الحاكم المطلق بلا منازع.

استخدم قيس سعيّد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والصعوبات الصحية التي كانت تمر بها البلاد، مدخلا لتخريب المنظومة الديمقراطية والانقضاض على المؤسسات، بزعم إصلاح ما أفسدته الأحزاب السياسية، ولم يتردّد في عقد تحالفات مع القوى الكارهة للثورة في الداخل والمعادية للديمقراطية في الخارج. والحقيقة أن الظاهرة القيسية معلومة ومفهومة جيدا في مسار الثورات التي تفتح الأبواب نحو المغامرات والمغامرين الذين يمتطون الموجة العامة، ومن ذلك صعود الظواهر الديماغوجية والفوضوية والموجات الشعبوية في أجواء أزمات التحوّل وصعود ثقافة الكتل الشعبية، وبيع الشعارات والأوهام. بيد أنه يتوجب الانتباه إلى الوجه الآخر من المشهد السياسي التونسي، رغم حالة الانتكاس السلطوي التي تدحرجت نحوها البلاد، فمما لا يمكن إنكاره أن الثورة التونسية قد تركت أثرها في الواقع السياسي، واستوطنت عقول التونسيين وقلوبهم خلال العشرية الأخيرة، بما يجعل من الصعوبة بمكان محو أثريها، الفردي والجمعي، على الرغم من حالة الارتداد السياسي. صحيح أن هناك أقدارا من التذمر بين الناس، وخصوصا القطاع الشبابي منهم، نتيجة اتساع الهوة الفاصلة بين طموحاتهم وتطلعاتهم من جهة وواقع الحال وعسر التحول في محيط مضطرب من جهة أخرى، ثم ضعف المنجز الاقتصادي التنموي مقارنة بالمنجز السياسي. فعلا نجح التونسيون في ترجمة قيمة الحرية السياسية، ومن ذلك ترسيخ آليات التداول السلمي على السلطة وحرية التنظم والتعبير والتوزيع الأفقي للسلطة وبناء المؤسسات التعديلية وضمان أقدار مهمة من استقلالية القضاء وغيرها، ولكنهم لم ينجحوا في تجسيد تطلعات الجمهور في الرخاء والتنمية العادلة، لأسبابٍ معروفة، منها ما يتعلق بصعوبات المرحلة وتأثير المحيط، وبعضها يعود إلى قصور التدبير السياسي لأحزاب الحكم والمعارضة.

العمر الافتراضي لانقلاب قيس سعيد يبقى مرتبطاً، إلى حد كبير، بمدى قدرة القوى السياسية والاجتماعية على بناء المشترك الوطني الجامع

ولكن يجب الانتباه هنا إلى أن التعبير عن الضيق والتذمر لا يعني بالضرورة أن التونسيين يرغبون في العودة إلى مرحلة ما قبل الثورة الكريهة، بقدر ما يتطلّعون إلى المستقبل، أي هم يرغبون في الوصول إلى ديمقراطية معزّزة بالتنمية، وليس العودة إلى السلطوية السياسية التي أحياها قيس سعيّد، فقد غدا مكسب الحرية من تحصيل الحاصل، ولم يعد بمقدور أي حاكم، مهما كانت رغباته وأهواؤه الخاصة، أن يصادر هذا الحق. ولئن تمكّنت الدكتاتورية الناشئة من تضييق مساحات الحرية واقعا، إلا أنها لم تقدر على مصادرة روح الحرية التي سكنت الوعيين، الفردي والجمعي، خلال ما يزيد عن عشرية من عمر الثورة. وإذا كان هناك من نجاحٍ يُذكر للفاعلين السياسيين التونسيين، فهو نجاحهم في تأجيل الثورة المضادّة والتمديد في أنفاس النظام الديمقراطي الذي كان مهدّدا بالسقوط منذ أزمة 2013 في أجواء الاغتيالات السياسية والانقلاب العسكري في مصر.

تعود التونسيون الحديث المفتوح في الشأن السياسي وانتقاد الحكام والمسؤولين من دون تردّد أو تهيب إلى حد المبالغة المشطّة. وقد أضحى هذا التقليد أكثر رسوخا مع الأجيال الجديدة التي اعتادت على تنفّس نسائم الحرية في مرحلة ما بعد الثورة، وتعزّز أكثر مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. كما أنه لا يخفى على أحد تزايد منسوب المقاومة المعلنة لهذه الدكتاتورية الناشئة على جبهات متعدّدة، فعلى الرغم من الدور التحريضي الذي مارسته كثير من وسائل الإعلام السمعية والمرئية، مستفيدة من مناخات الحرية التي وفرتها الثورة، وعلى الرغم من انحياز كثير منها للانقلاب وتزيينه في البداية، إلا أنها بدأت تستشعر الخطر الداهم الذي يتهدّدها بسبب تصاعد النزعات الانفرادية لقرطاج، فبدأت تتيح مساحة أوسع للتعبير عن المواقف المناهضة للانقلاب. وبموازاة ذلك، يتسع نطاق رفض التوجهات الانقلابية من داخل القضاة والمحامين وهيئات المجتمع المدني، بعدما تأكد الجميع من عزم قيس سعيّد على إخضاع كل السلطات والسيطرة عليها بصورة كاملة. ويمثل هذا السلوك المواطني تحدّيا صارخا للنزوعات السلطوية لقيس سعيّد.

يتسع نطاق رفض التوجهات الانقلابية من داخل القضاة والمحامين وهيئات المجتمع المدني

وعلى الصعيد الميداني، توالت موجات المقاومة المدنية السلمية، وتنوعت أشكالها ما بين الوقفات الاحتجاجية والمسيرات وإضرابات الجوع والاعتصامات وغيرها. كما شهدت النخبة السياسية حالة صحو متنامية بعد حالة الارتباك والتردّد التي اتصف بها سلوكها في الأسابيع الأولى للانقلاب، ومن ذلك تشكّل جبهات سياسية ومدنية مواطنية، مثل حراك "مواطنون ضد الانقلاب" و"اللقاء الوطني للإنقاذ"، إضافة إلى جبهة الأحزاب الاجتماعية والديمقراطية، وبدأت جسور التواصل والحوار تتسع بين هذه التعبيرات السياسية المتنوعة التي ترجمت بخروج كل القوى السياسية في مسيرة موحدة يوم 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) للاحتفال بذكرى الثورة التي حاول قيس سعيّد قبرها بابتداع سرديته التاريخية الخاصة لثورةٍ لم يشارك فيها أصلا.

من حسن الحظ أن الطبقة السياسية اكتسبت قدرا من الوعي السياسي المبني على الخبرة وجراحات الماضي القريب، فقد دشّن بن علي عهده "الجديد" ببيع وعود بتدشين ديمقراطية من دون إسلاميين، ولكنه استدار فيما بعد إلى بقية القوى السياسية ليطحنها حلقةً بعد الأخرى. ولذلك لم يتمكّن قيس سعيّد من تمرير هذا الوهم. وإذا استثنينا اليوم بعض مجموعات اليسار الوظيفي التي عقدت تحالفا موضوعيا معه، فإن بقية القوى السياسية قد قطعت أشواطا بعيدة عنه، وازدادت مخاوفها أكثر مع ظهور الوجوه المخيفة للمشروع الشعبوي لقيس سعيّد في تفكيك المؤسسات والهياكل الوسيطة، بزعم بناء ديمقراطية قاعدية مباشرة. كما أن توالي أخطاء سعيّد وتصميمه على فتح منصّات صواريخه في كل الاتجاهات تقريبا، بالتزامن مع الأزمتين، المالية والاقتصادية، زاد من عزلته داخليا وخارجيا، ولكن العمر الافتراضي لهذا الانقلاب يبقى مرتبطا، إلى حد كبير، بمدى قدرة القوى السياسية والاجتماعية على بناء المشترك الوطني الجامع، وتغليب مطلب استعادة الحياة الديمقراطية على الانقسامات الأيديولوجية ولعبة التموقع في الحكم.