ليل السودان في سياق عربي

ليل السودان في سياق عربي

05 نوفمبر 2021
+ الخط -

لم تكن ليلة 25 أكتوبر/ تشرين الأول السودانية غريبة عن السياق العربي، بل يمكن القول إن استيلاء العسكر على السلطة واعتقال السياسيين والحزبيين فيها استعادة ممجوجة لأحداثٍ رافقت مسار السياسة العربية منذ تشكّل الدولة في هذه المنطقة، وكانت، على الدوام، مؤشّراً على سيادة الاستبداد ودلالة على أن زمن الديمقراطية لم يحن بعد في هذه البلاد.

حينما قرعت الثورة أبواب العالم العربي، اعتقد كثيرون أن الأصوات التي تنادي للحرية قد تكون مجرّد أحلام يقظة أو كوابيس، أو ربما خرج أصحابها من أقبية أجهزة المخابرات، في خدعة جديدة، غرضها القبض على الحالمين بالحرية، وأخذوا يملأون ساحات التواصل الاجتماعي، إذ كيف لأرضٍ تصحّرت وتحوّلت ملحية إنتاج غير العسكر والاستبداد والبيانات الأولى، والواعدين بهزيمة العملاء وأصحاب الأجندات المشبوهة؟

يشتغل العسكر ليل نهار على معرفة أسباب التحوّلات، والأفكار التي أنتجتها، والقوى التي شكّلت حوامل لها

على الجانب الأخر، كان عسكر الأمة وأجهزة أمنها يتخبّطون، ويسألون عن الخطأ الذي حصل في أثناء عمليات تعقيمهم هذه الأمة، وهل ثمّة تراكيبُ معملية أنتجت تفاعلاتٍ غريبة أدّت إلى هذه الانحرافات الخطيرة. وعندما تيقنوا أن جميع الخطوات كانت سليمة، باستخدام الطرائق المعتادة، والتي طالما أثبتت نجاعتها على مدار عقود، قالوا إنها مؤامرة أجنبية، وثمّة من تلاعب بالمعطيات الجينية لشعوبنا التي نحفظها عن ظهر قلب، ويستحيل أن تقوم بهذه الأفعال الغريبة وتهتف "الشعب يريد إسقاط النظام". غير أن العسكر الذين لطالما تم وصفهم في بلادنا بأصحاب التفكير الجامد والصيغ المتخشّبة استجابوا للتحدّي الذي واجههم في أكثر من بلد، فقد أظهروا درجة عالية من التماسك في مرحلة أولى، وحافظوا على بنى الجيش والأجهزة الأمنية، ثم أوحوا للثورات أنهم متعاطفون معها (باستثناء النموذجين السوري والليبي حيث الجيش يقوم على أسس طائفية وقبلية)، ثم القبول بإزاحة رأس السلطة، لإثبات انتماء الجيش للشعب، وأن لا أحد أهم من الشعب.

المرحلة التالية معلومة، يجري تشكيل هيئة حكم انتقالي، سنتين في الغالب، يديرها العسكر، ويتم خلالها التجهيز لانتخابات عامة، على أن يتم تسليم الحكم للقوى المدنية، ويسلم الجيش الأمانة الثقيلة، ويتخلّص من هذه المرحلة ثقيلة الظل على قلبه، ويعانق أشواقه للعودة إلى الثكنات والابتعاد عن رجس السياسة التي لا يمكن لها، مهما علا شأنها، إغراء العسكر الذين يضعون حب الوطن والدفاع عنه في مرتبة قدس الأقداس. ولكن في هذه المرحلة الانتقالية اللعينة، يشتغل العسكر ليل نهار على معرفة أسباب هذه التحوّلات، والأفكار التي أنتجتها، والقوى التي شكّلت حوامل لها، والأدوات التي تم استخدامها والوسائل المتبعة، ونقاط القوّة التي يجب تحطيمها، ونقاط الضعف التي يجب الولوج منها لتغيير المشهد وصناعة سياق جديد يضمن، بعد حين، عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل هذا الانحراف/ التحوّل.

القوى المدنية ضعيفة ومشتتة، وما زال العسكر، على الرغم من سطحيتهم، قادرون على امتطاء اللحظة التاريخية

هنا يلاحظ اتباع تكتيكاتٍ جرى ترحيلها من بلد إلى آخر: صناعة ثورة مضادّة بقيم وأفكار تحاول تسخيف التحوّلات، بل وتخوينها وتحميلها مسؤولية الخراب والعطالة واتهامها بمحاولة تدمير الجيش بوصفه أهم ركائز الوطنية وعناوينها في هذه البلدان، وشن الحملات الإعلامية على الثورة ورموزها (الإعلام في دول الثورات بقي أمينا للأنظمة القديمة)، ومحاولة إثبات أن هؤلاء مجرّد هواة في السياسة وحالمون ولا يستطيعون إدارة البلاد. ولتثبيت ذلك، تعمل الأجهزة الأمنية على إشاعة حالة من الفوضى وتركها تتفاعل، عمليات قتل وسرقة ونهب واغتصاب، ليقولوا للناس هذه الحرية التي تريدونها، ثم تأتي مرحلة القبض على النشطاء وتغييبهم في السجون. وفي هذه المرحلة تكون القوى الشعبية التي التفت حول الثورة قد تعبت وتفرّقت للبحث عن مصادر رزقها بعد تراجع أحوالها المعيشية. ليس مهماً أن تتسلّم القوى المدنية السلطة بعد ذلك، سيكون العسكر قد أنهوا هندسة الأوضاع اللاحقة، وفخّخوا المجال السياسي بألغامٍ كثيرة، مثل إيجاد برلمان غير قابل للعمل بسبب التناقضات بين مكوناته، أو تشكيل قوّةٍ حزبيةٍ من بقايا النظام القديم، أو صناعة قوى قريبة من العسكر وتطالب بعودتهم إلى السلطة. وفي حالة عدم نجاح الترتيبات السابقة، أو ظهور عراقيل معطّلة، فخيار الانقلاب حاضر، كما في الحالة السودانية. ولا داعي هنا للتجمّل حتى يرضى الخارج عن العسكر، فهذا الخارج الذي سيحرد، في البداية، سيضطر، تحت ضغط مصالحه، إلى التصالح مع هؤلاء الحكام، وربما يقدّم لهم مساعدات عسكرية وأمنية، ما دامت هذه القوى تضبط الشعوب المحكومة وتمنعها من الهجرة إلى ما وراء البحار.

يبدو أن أوان طلوع الشمس لم يحن بعد على الأرض العربية، فالقوى المدنية ضعيفة ومشتتة، وما زال العسكر، على الرغم من سطحيتهم، قادرون على امتطاء اللحظة التاريخية، ولن يقطع صيرورة سيطرتهم سوى فكر عربي جديد وأحزاب قوية وفاعلة، لا بد أنها أصبحت قريبة، فالشعوب العربية أيضاً درست نقاط القوّة والضعف، وباتت تعرف مزيدا من التكتيك والإستراتيجيا، ومؤكد أن تلك العذابات لن تذهب مجاناً.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".