ليبيا: النفط والسياقات الاجتماعية/ السياسية للصراع

النفط والسياقات الاجتماعية ـ السياسية للصراع في ليبيا

27 يوليو 2022
+ الخط -

يُثير تغيير مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا النقاش بشأن مسار الحل السلمي، فبعد مشوار من التحضير للانتخابات والحديث عنها، لم يعد الخلاف حول الوضع الدستوري في أولوية الجدل السياسي، فقد انصرفت الأطراف إلى البحث عن صيغة للتعامل مع الوضع الجديد، حيث يكتسب النفط أهميته من أنه المصدر الرئيسي للدخل الوطني، ما يُشكل مجالاً لصراع حَدِّي. وفي ذلك، تكمن أهمية تناول التداعيات وتأثيرها على مستقبل السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي.

وبينما تتنامى خلافات حول انتهاء المرحلة التمهيدية في 21 يونيو/ حزيران الماضي، انبعث النزاع على ملء بعض الوظائف العامة، لتبدأ مرحلة أخرى من النزاع مُتعدّد الأبعاد. وعلى نحو متسارع، بدت توجهات تشكيل مجلس المؤسسة الوطنية في 23 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، واتخذت طريقها إلى التنفيذ عندما خاطب وزير النفط مجلس الوزراء في 5 يوليو/ تموز الحالي، ليتم اعتماد تشكيل مجلس النفط الجديد بعد يومين، وقد استُكملت عملية تمكينه في 12 يوليو، ليتحوّل النقاش عن القاعدة الدستورية والخلاف بشأنها للتنافس على إدارة قطاع الطاقة.

ويرجع انزعاج "رئيس الوزراء"، عبد الحميد الدبيبة، بيان 19 يوليو/ تموز 2022، إلى الحديث المتتابع عن وجود صفقة للقلق من تدهور صورته الذهنية لدى المكونات الاجتماعية والعسكرية في الغرب الليبي وإمكانية تخليها عنه، فقد سيطر عليه نفي وجود صفقة مع خليفة حفتر، وقدّم سردية لا تفسر تسارع الإجراءات اللاحقة لاستلام مقر المؤسسة الوطنية. ولعل انتقاده وقوف دولة، لم يُسمها، وراء إثارة الخلاف حول تغيير مجلس المؤسسة تكشف عن تداعيات لم تكن مُتوقعة.

تحوّل النقاش عن القاعدة الدستورية والخلاف بشأنها للتنافس على إدارة قطاع الطاقة

وبشكل عام، قامت تشاركية تغيير مجلس المؤسسة الوطنية على احتياجات متبادلة، فكما أن هناك حاجة للحكومة إلى التحكم في توزيع إيرادات النفط، تبدو احتياجات القائد العام حرجةً لتمويل الجيش وتوحيده ليكون عصب السلطة. ولذلك، تُشكل طريقة دخول فرحات بن قدارة مؤسسة النفط نوعاً من الإكراه وليس تسليماً سلساً، وهو ما يحمل في طياته ترسيخاً لاستخدام القوة في تنفيذ القرارات. وبالنظر إلى تركيبة القوى المساندة، يمكن ملاحظة ثلاثة مكونات في خلفية السلوك، أولها استعادة النمط العائلي/ القبلي حاضنة سياسية، فالحالة الماثلة هي نوع من التوافق بين عائلتي رئيس الوزراء والقائد العام، فلم يقتصر التنسيق على حصحصة إدارة الشركات فقط، وإنما في التناسق ما بين تغيير المجلس ورفع حالة القوة القاهرة وعودة التصدير من دون مُؤشّرات سابقة على تلاقي الطرفين المسيطرين في غرب البلاد وشرقها، ولذلك، ظهر تعبير "الصفقة" موقفاً تفسيرياً للتغير الفجائي والخالي من ملامح إضافية على رعاية الحكومة للتقارب الاجتماعي والسياسي بين المكونات الليبية، بقدر اهتمامها بحل مشكلة النفط وإيراداته.

أما الثاني، فيرتبط بالقوة المُنفذة، حيث تكونت حملة توصيل مجلس النفط الجديد إلى مقرّ المؤسسة الوطنية بدعم، حسب تصريحات رسمية، من قوة العمليات المُشتركة، تشكلت في يوليو/ تموز 2020، ورغم الإشارة لمشاركة "إدارة إنفاذ القانون .."، فإنها لم تنشر بياناً رسمياً ضمن أعمالها اليومية. وعلى خلفية الانقسام بين حكومتين، تؤسّس هذه العملية لتغيير في خريطة النفوذ السياسي والأمني في غرب ليبيا، فبينما تسعى القوة المشتركة إلى إثبات جدارتها في العاصمة طرابلس، تعمل كتائب الردع على تثبيت وظائفها الأمنية ونشرها، كما تتحرّك مكونات عسكرية أخرى في شرق طرابلس وغربها لاحتواء تداعيات تغيير مجلس المؤسسة الوطنية. أما الثالث، فيتعلق بالقوى الاجتماعية المنخرطة في مشكلة الموانئ النفطية، فهي أقرب إلى نمط من التلاقي السياسي حول مطالب تقاسم السلطة والثروة. وبغض النظر عن تمثيلها اجتماعيات الشرق الليبي وطريقة استدعائها المشهد السياسي، فإنها تعمل ضمن مكونات تتبنّى مركزية السلطة، ما يُمثل واحداً من تناقضاتها الداخلية.

يُساعد انفراط السلطة على تزايد فرصة المساومات لدى إصدار القرارات وفي مرحلة تنفيذها

وبينما كان الخلاف على إعداد قاعدة دستورية للانتخابات، بدت أولوية الصراع على الاستحواذ على عوائد النفط، سواء عبر حكومة فتحي باشاغا أو بالتوصل إلى تفاهمات بين حكومة الوحدة الوطنية وقيادة الجيش على تشغيل قطاع النفط والبحث في إمكانية إدارة عوائده من خارج المصرف المركزي. وهنا، صارت ليبيا أمام تبديل الأولويات من الانتخابات إلى توزيع الثروة، من دون وضع دستوري يُنظم الاختصاصات ومعايير التوزيع، ولذلك ينصرف تأثير التغيرات في قطاع النفط أكثر نحو بعث الصراع على خلفية فرض نمط لتقاسم الموارد على أساس النفوذ، وهي وضعية تعمل على بناء عوامل عدم الاستقرار.

وبشكل عام، جاء تغيير مجلس النفط في ظل نزاع على السلطة وحالة من الإنكار المتبادل. ومع تمركز الحكومتين في طرابلس وسرت، والحديث عن أخرى في الجنوب، ظهر الصراع على استلام الميزانية. وحسب ترتيبات مجلس النواب، تختصّ حكومة فتحي باشاغا بإدارة مالية الدولة، غير أنه مع بقاء مشكلات تسليم السلطة تظل إيرادات النفط تحت سيطرة المصرف المركزي والحكومة في طرابلس، وعلى وجه مقابل، أعلنت المؤسّسة الوطنية للنفط حالة القوة القاهرة، لتزيد من أثر مُعضلة إدارة الموارد.

وفي سياق النزاع بين الحكومتين، أشار باشاغا إلى ارتباط حالة القوة القاهرة برغبة سكان المناطق النفطية، وعلى الرغم من انتقاد موقفه وتحميله المسؤولية، كشف بيان التشكيلات الاجتماعية في منطقة الهلال النفطي، 13 يوليو/ تموز 2022، عن صحة الاحتجاج برغبات السكان، إذ أعلنوا انتهاء الإغلاق واستئناف تصدير النفط، وذلك، بناءً على تعهد رئيس مجلس الإدارة الجديدة بالتوزيع العادل لإيرادات شهر يوليو/ تموز، غير أن غموض معايير العدالة والمُحاسبة سوف يضع التصرفات محل جدل.

في غياب جيش نظامي أو أجهزة قوية، صارت مهمة ترجيح الخيار السياسي مرتبطة بمصالح الشبكات المُسلحة

وفي موازاة إثارة حكومة الوحدة الوطنية مشكلة النفط، تتشكل عوامل مضادة لمنع "رئيس الوزراء" من تمديد مشروعه. وعلى المستوى الداخلي، بدا ما يمكن تسميته التقويض المتبادل فيما بين المؤسسات بسبب الخلاف حول طرق التعامل على قطاع النفط، فمن جهة، بدأ مجلس النواب إجراءات تشكيل المناصب السيادية، حيث أرسل في 6 يوليو/ تموز قائمة من 13 اسماً لمجلس الدولة لاختيار ثلاثة لكل قطاع يختار النواب واحداً منهم، وهي تفتح النقاش بشأن رئيس المصرف المركزي، المنصب الأكثر تأثيراً منذ 2011. ومن جهة أخرى، اعتبر الدبيبة مجلسي النواب والدولة عقبة أمام الاستقرار استمرّت عشر سنوات، كما رأى ملاحظات مجلس الدولة، 13 يوليو 2022، استشارية غير ملزمة.

وبمرور الوقت، يتبلور سياق سياسي واجتماعي مناهض لسياسات النفط الجديدة، فقد بدت تحرّكات باشاغا في غرب ليبيا أقرب إلى تفكيك شبكات منافسه، حيث حرص في لقاءات مصراتة ومصفاة تكرير النفط بالزاوية على التلاقي مع المستويين الاجتماعي والسياسي. وبغض النظر عن مدى الدعم لحكومته، تعكس تحرّكاته في محيط طرابلس تقدّماً يتلاقى مع سياقات أخرى تتخذ مواقف مناهضة لحكومة الوحدة الوطنية، وحسب البيان الختامي لـ "ملتقى الحكومة الليبية بالفعاليات السياسية والاجتماعية بالمنطقة الغربية"، 24 يوليو، بدا حزام مدن المنطقة الغربية الرئيسية أكثر اقتراباً من مجلس النواب وحكومته.

ويُمثل المستوى الخارجي فجوةً أمنية، حيث يكون، في غالبه، محاولة احتواء لتداعيات الصراع. وفي هذا السياق، تتبنّى بريطانيا والولايات المتحدة مواقف غير صريحة، حيث تدعو إلى ضبط النفس وعدم اللجوء إلى العنف على أن يكون الطعن القضائي مساراً محتملاً لحل الأزمة. وثمّة إشارات مُتكرّرة لأهمية حياد قطاع النفط وتوفير الدعم المالي لتطويره. وعلى خلاف ذاك التوجه، كانت التصريحات الإيطالية الأكثر وضوحاً عندما أعلنت السفارة في ليبيا، 25 يوليو، إن استمرار الوضع الراهن يؤدي إلى مواجهات خطيرة، واقترحت أن تكون المعالجة بالتوافق على المناصب السيادية والانتخابات وشفافية التعامل مع الموارد الوطنية.

يمكن النظر إلى اشتباكات طرابلس ومصراتة من أوجه الرغبة في البقاء وتطوير المصالح على حساب الاستقرار الاجتماعي

وفي ظل غياب الحل السياسي، يكون اللجوء إلى الشبكات المُسلحة حلاً قريباً، رغم التضحية بالاستقرار الاجتماعي وسعيها الدائم إلى الحصول على ميزات تمويلية لتتحوّل ظاهرة المليشيات للحفاظ على الوضع الراهن. وفي غياب جيش نظامي أو أجهزة قوية، صارت مهمة ترجيح الخيار السياسي مرتبطة بمصالح الشبكات المُسلحة، ما راكم وعياً جزئياً بتطلعات بناء الدولة، فقد اتجهت حكومة الوفاق السابقة إلى تمكين المُسلحين من القانون بإدراجهم تحت وظائف أمنية وعسكرية. ساهمت هذه التغيرات في تغليب الكيانات على المؤسسات التقليدية، بحيث صارت ركيزة تنفيذ القرارات الحكومية. وهنا، يمكن النظر إلى اشتباكات طرابلس ومصراتة من أوجه الرغبة في البقاء وتطوير المصالح على حساب الاستقرار الاجتماعي.

وعلى أية حال، يُساعد انفراط السلطة على تزايد فرصة المساومات لدى إصدار القرارات وفي مرحلة تنفيذها، ويُمثل تقاسم المصالح صيغة مُرجّحة مع غياب القوة اللازمة لتوحيد معايير ممارسة السلطة وتطبيق القانون. وهنا، يكتسب الجدل بشأن الصفقات حجّيته من تبعثر السيطرة على القرار والموارد وشيوعه بين مكونات متنافسة ومنتشرة على جغرافيا البلاد. وباعتبار أن قطاع الطاقة يمثل 95% من الإيرادات الوطنية، فإن تصاعد الصراع يكون الطريق مفتوحاً لمرحلة جديدة من الصراع على السلطة والموارد تحت مظلة التنافس على إعادة تشكيل دوائر النفوذ المحلية والدولية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .