لماذا تنتحر هؤلاء النساء في الأردن؟

لماذا تنتحر هؤلاء النساء في الأردن؟

27 فبراير 2021

(محمد العامري)

+ الخط -

عندما قرّرت جهاد مغادرة الأردن، هاربة من معاناة عاشتها على مدار سنوات عمرها الـ 22 على جناح منحةٍ تعليميةٍ إلى عاصمة أوروبية، لم تعرف أن النور الذي لاحقته خلاصا من حياتها السابقة سينطفئ نهائيا في شقة باردة في دولةٍ غريبةٍ لا يعرفها فيها أحد سوى مرشدتها النفسية هناك.

على مدار سنوات، كانت في رحلة بحث عن ذاتها. وعندما لاحت الفرصة لم تسعها الفرحة "أخيرا سيفهم أحدهم ما أعانيه، ما أعنيه، وما أصبو إليه"، وهو بعض من التفهم والتسامح لفتاةٍ نشأت في حي متواضع في العاصمة الأردنية عمّان، ولكن طموحاتها عالية جدا، بل ومستحيلة لعائلتها البسيطة المحافظة.

انتهت جهاد قبل أسابيع عنوانا لخبر في صحيفة أوروبية في زاوية مخفية "الفتاة الأردنية المشنوقة كانت تعاني مرضا نفسيا". ولكن المحرّر لا يعلم أنها قارعت حروبا طاحنة من التعنيف في مجتمعها الضيق، محاولةً، طوال حياتها القصيرة، أن تكون عنوانا لقصة مبهجة تتوافق تفاصيلها في العلن مع ما تعيشه في الواقع، كان حبل انتحارها خاتمةً بائسةً لتلك القصة.

ليست جهاد وحدها من نجحت في إنهاء حياتها، بل إن عشرات الفتيات اللواتي تركتهن وراءها في بلدها، حيث بيوت حجرية بيضاء بجدرانٍ قاتمةٍ تخفي وراءها قصصا من العنف ضد نساء وفتيات تتكرّر بشكل يومي، تمتد من التعنيف وتنتهي بالقتل، بل تتبرّع فتياتٌ للقيام بالمهمة بأنفسهن، وينهين حياتهن بالانتحار.

تشكل الإناث حوالي 30% من حالات الانتحار، و62% من محاولات الانتحار، في الأردن بحسب التقرير الإحصائي الجنائي لعام 2019

تشكل الإناث حوالي 30% من حالات الانتحار، و62% من محاولات الانتحار، في الأردن بحسب التقرير الإحصائي الجنائي لعام 2019. وهناك تخوف عكسته تقارير منظمات نسائية وحقوقية إن التراجع الذي حصل في تلك النسب، في السنوات الثماني الأخيرة، بشكل لافت، لن يستمر في ظل تفاقم العنف الأسري في ظل جائحة كورونا 2020/ 2021.

تفيد دراسة أنجزتها جمعية معهد النساء (تضامن) "تعاني النساء بشكل خاص من ظاهرة الانتحار عندما ترتفع مستويات التمييز والعنف وعدم المساواة بين الجنسين، وتؤدّي الإحباطات الناجمة عن تراكم وتزايد الشعور بالتهميش والعزلة الى التفكير بالانتحار ومحاولة تنفيذه مرة تلو الأخرى". وهذا ما قامت به بالفعل ثلاثينية مطلقة، اختارت رانيا اسما مستعارا لها، فشلت بإنهاء حياتها، على الرغم من محاولاتها العديدة نتيجة تحرّش والدها بها مرارا وتكرارا، فلم تنجح في الهروب من المنزل، ولم تنجح في الهروب من الحياة، لكنها تعيش اليوم على المهدّئات، بعد أن أحالتها مديرية حماية الأسرة إلى معالج نفسي.

توضح منظمة الصحة العالمية أن "الاكتئاب مرضٌ، في أسوأ حالاته، قد يفضي إلى الانتحار. والنساء يتأثرن بشكل أكبر بالاكتئاب مقارنة بالرجال". صحيح أنه مرض لا يميز بين الجنسين، ولكنه يعرف أيهما أكثر ضعفا وهشاشة فينقضّ عليه، هو يعلم أنه إذا كان عيبا مراجعة طبيب نفسي في مجتمعاتنا للرجال، فهو بالتأكيد عار للنساء.

 إذا صدر الانتحار من فتاة، تحاكم وتستباح خصوصياتها، ويتم الحفر وراء قصتها بأعماقٍ لا نهائية

وتجمل إدارة المعلومات الجنائية في مديرية الأمن العام الأردنية أسباب الانتحار ودوافعه، ومحاولاته، ضمن عشرة تصنيفات مختلفة "عاطفية، مالية، أخلاقية، خلافات عائلية، أمراض ومشاكل نفسية، خلافات شخصية، إنسانية، الفشل والإحباط، أخرى، ومجهولة". والأسباب المجهولة، والأخرى يصفها ناشطون وناشطات بأنها الثقب الأسود بالنسبة لهذه الجريمة، ويضعون فرضية أنه قد تدرج جرائم قتل متعمّدة لنساء تحتها! لكن من يبحث في قضية قتل لامرأة والتهم أصلا جاهزة ومعلبة سلفا، لقصةٍ يكتنف الغموض تفاصيلها، فهي إما غير مهمة، أو أنها تتعلق "بالشرف". بل إن محاولات الانتحار الفاشلة لفتيات على الجسر الأشهر في عبدون (ضاحية في عمّان) تنتهي على مواقع التواصل الاجتماعي إلى نكات وقصص يتندّر فيها مجموعة، وتتنمّر فيها مجموعات أخرى، وتُشبعها جلدا مجموعاتٌ أخرى محافظة دينيا واجتماعيا، فالانتحار في النهاية مرفوض في المجتمع ومحرّم في الدين.

ولكن لا يكلف أحد نفسه بالبحث أو حتى التساؤل: لماذا تبادر طفلة أو شابة إلى إنهاء حياتها، أو حتى تفكر في ذلك؟ لماذا يحتل قلبها كل هذا السواد، ويسيطر على عقلها كل هذا الغضب، ويشل تفكيرها العجز التام بإعمال عقلها والبحث عن المخرج من كل ما تعانيه؟ أليس لديها قصص وأحلام تكفيها شر هذا القتال مع ذاتها؟ أليس مبكّرا على شابة أن تفقد الأمل بالتغيير؟

صحيح أن جرائم الانتحار ومحاولاتها الفاشلة تحدُث بين الذكور بنسب أعلى عالميا وإقليميا، وكذلك الحال أردنيا، لكنه عرضة أكبر للهجوم إذا صدر من فتاة، وتحاكم وتستباح خصوصياتها، ويتم الحفر وراء قصتها بأعماقٍ لا نهائية. ويكرّر سؤال باستغراب بكلمات ولهجات وتبريرات عدة: ماذا ينقص أي امرأة تأكل وتنام حتى تنهي حياتها؟!

عطاف الروضان
عطاف الروضان
إعلامية أردنية، متخصصة في الإعلام المجتمعي والتنموي