لحظة ماليزيا التاريخية

لحظة ماليزيا التاريخية

26 ديسمبر 2023
+ الخط -

تُمثل ماليزيا أحد مقاصد البحث الفكري والأنثروبولوجي، في النماذج التطبيقية لحياة المسلمين في آسيا، وبالذات في رحلة الأمم التي اندفعت إلى الإسلام، وأصبحت جزءًا من هويتها القومية، وواجهت تحدّيات كبرى في الصمود أمام المشروع الثقافي، للكولونيالية الغربية. والذي حضر بقوة في تاريخ آسيا وشرقها، وكانت شمس التاج تمارس ثقافة المستعمر، وليس فقط آلته العسكرية، ولم يكن ميلاد الاستقلال سهلاً، بل جاء صعبا وشاقّا، تداخلت فيه تقديرات دقيقة للحركة الوطنية المالاوية، بما فيها استثمار علاقتها الإيجابية مع لندن، التي كانت تخشى من زحف المد الشيوعي المتمكّن ذلك الحين، من دولة أشقاء ماليزيا الكبرى، وهي إندونيسيا، وهذه مسارات أشرنا إليها في كتابات سابقة، لربط مركز البحث الذي يهمّني في تاريخ ماليزيا.
وسؤال لحظة كوالالمبور وماذا تعنيه اليوم، لدى كل الأمة المالاوية في أرخبيل ماليزيا، بكل مكوّناتهم وتشكّلاتهم الحزبية، هو ماذا يعني عبورهم بوصفهم جسما وطنيا مركزيا، ارتبط وجودهم وصمودهم بروح الإسلام، مع شركائهم من أبناء الوطن الذين انضمّوا لهم في شرط الاستقلال، أو كانوا من أقليات التعدّد الديني القديم في ماليزيا، أو إخوانهم من السكّان الأصليين من قبائل الغابات في كلينتان وغيرها. وهذه اللحظة المقصودة هي زمن تولّي أنور إبراهيم رئاسة الحكومة الماليزية، بعد مرحلة صراع وفساد كبرى، ومحاولة إسقاط العملية الديمقراطية، التي أُنقذت بشراكة حركته الفكرية، وقيادة السيدة وان عزيزة إسماعيل زوجة أنور، فماذا عن حديث اليوم في تحدّيات الحكم.
يتوزّع فرقاء العملية السياسية في ماليزيا من مجتمع المالايو إلى ثلاث جهات كبرى، تشمل غالبيتهم العظمى، بكل انشقاقاتهم وانقساماتهم التي برزت على الساحة اليوم، وأضحت كيانات مستقلة، أو تيارات فاعلة، وهي المنظمة الوطنية للمالايو (أمنو) والحزب الإسلامي الماليزي (باس) والمستقلون في كل تحالفات الدعم لأنور إبراهيم، وهم المستقلّون المالايو، الذين يمثلهم أفراد وجماعات وسطية ضرورية للمشروع المدني الإسلامي لماليزيا.

إن كانت الجذور الإسلامية لأمنو حاضرة، فالعلمانية الوطنية لماليزيا تستمدّ شرعيتها وهويتها أيضا من الإسلام

ومنذ قرار أنور إبراهيم الانضمام لأمنو، وإيجاد حركة البعث الإسلامي القيمي (1982)، والدفع بها إلى مسرح الدولة، لا ثقافة المجتمع فقط، اشتبكت التجربة الوطنية للمالايو، واكتسبت زخماً جديداً، كانت تفتقده منظمة أمنو، وإن كانت الجذور الإسلامية لأمنو حاضرة، فالعلمانية الوطنية لماليزيا تستمدّ شرعيتها وهويتها أيضا من الإسلام.
ورغم أن هذه الدعوة إلى الانضمام لأمنو كانت عبر الرجل القوي في نهضة ماليزيا، مهاتير محمّد، إلا أنها في الحقيقة لم تكن منّة ولا حسنة يتفضّل بها، ولكنها شكّلت قرار احتياج خدم مشروع الأمة الماليزية، وعبر بها عبر هوية قيم ومعاصرة، ساعدت في الحفاظ على جوهر الاستقلال الروحي لمسلمي ماليزيا، ومنظومة الدولة المدنية المستقرّة، وانفتاحها على شركاء التعدّد القومي الديني. فأوجد مشروع أنور القديم فارقاً نوعياً يعزّز استقلال القوة الاجتماعية، وحقوقها التاريخية الدستورية، عبر التفاعل والتقدّم إلى جسور اقتصادية وسياسية، ودمج المجتمع المدني بين المالايو ومواطنيهم من أصول هندية وصينية، من دون أن يُفرّط بشرط الاستقلال الاجتماعي وتحصينه الدستوري، وهي قضيةٌ بدأها أنور، منذ قيادته الحركة الطلابية الشبابية، وقبل الانخراط في أمنو، وبالتالي، صنع للأمة أرضية لجيلٍ إسلاميٍ يفقه شروط الدولة المدنيّة، ولا يتخلى عن منظومة القيم الشرعية.
ثم مثّل نجاح أنور ورفاقه في بقية الكابينة الحكومية، في عهد مهاتير في بناء جسور مشاريع استقطاب، مع السوق العالمية، والعبور الدقيق ما بين التنين الصيني والوحش الاقتصادي الغربي، فقامت ثقة تنجو بها كوالالمبور من مضيق التعقّب الشرس للقوى الإسلامية، بسبب هذا الدمج بين روح المجتمع الإسلامي والدولة الناهضة، من دون أن تكون الفكرة الإسلامية مغلقة في صندوق حزبي، وهذه من المفارقات التي تحتاج لدراسة وفهم نجاحها وتحدياتها.

على عكس ما يروّجه بعض خصومه، فإن قوة أنور هنا هي ضمان لحماية القومية الإسلامية التي نصّ عليها الدستور

وحين يعود أنور اليوم، وهو من الشخصيات النادرة التي لم تتورّط في الفساد، وصُبّت عليه جناية كبرى بسبب غيرة مهاتير محمد، انتهت بسقوطها وكشف حقيقة بهتانها، ويستدعي كل توازناته القديمة، فهو هنا يقود مهمّة إنقاذ قومية لا شخصية، من الصعب أن تتكرّر في غيره. ولذلك، على عكس ما يروّجه بعض خصومه، فإن قوة أنور هنا هي ضمان لحماية القومية الإسلامية التي نصّ عليها الدستور، حين تتوسّع كتلته المالاوية، فيقود السفينة الوطنية مع مواطنيه من القوميات الأخرى، في حين أن التفزيع والتخويف من مشروع أنور يرتدّ، لصالح إضعاف القاعدة السياسية للمالايو وسقوط استئنافها الأخير.
وحين التقيتُ وزير الشؤون الدينية، في الحكومة المحلية للحزب الإسلامي في كلينتان، محمد عصري، سألته عن هذه القاعدة، أليست قيادة أنور هذا المشروع لحظة تاريخية لماليزيا؟ قال: نعم، ولكن الكرة في ملعب أنور ليتجاوب مع مطالب الحزب الإسلامي. .. والسبب الرئيسي في الخلاف، بحسب حديثي مع عصري، كان اقتصادياً في حصة كلينتان وترنكانو من ناتج الدخل القومي والمحلي. وفي تقدير بعض المراقبين، هناك أسباب أخرى، لها علاقة بجذور خلاف أنور مع التجربة الحزبية الإسلامية، وما طرأ عليها من صراع شخصي، خصوصا بعد رحيل الشيخ عبد العزيز، القيادي التاريخي الملهم للحزب. ولذلك يرى بعضهم أن تجاوز الخلاف الذي يحمله رئيس الحزب الإسلامي، الشيخ عبد الهادي أوانج تجاه أنور، وهو شخصية تاريخية للمالايو، سيلعب دوراً كبيراً في تحقيق أمل هذه اللحظة، وإن كانت مساحة التوقّع بنجاحه ضئيلة.
في كل الأحوال، نحنُ ننظر إلى تجربة ماليزيا، من خلال أمتها بكل أطياف المالايو السياسية، وقوتهم ووحدتهم هي من سينظم علاقة التعايش والتكامل، والعدالة الاجتماعية، التي هي من مقاصد الإسلام الكبرى، لكل مواطنيهم، فتنجح ماليزيا في حماية هويتها ووحدتها القومية، وفي قوة اقتصادها وسياستها. ولذلك، لابد من العبور من تحدّي الصراع الاجتماعي، الذي يُضعف الدولة، أمام خطر الفساد الكبير الذي ينفذ منه مشروع الخطر الخارجي.