لبنان وثقافة الولاء البعثية!

لبنان وثقافة الولاء البعثية!

24 مايو 2021
+ الخط -

ليست الظاهرة جديدة، والنماذج والأمثلة كثيرة، منذ نشوء الأنظمة القومية في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وهيمنة ثقافة الجماهير والحشود ونهجهما، وليس المواطن الفرد. جماهير الصوت الواحد التي تعني المبايعة للقائد - الزعيم، من تجربة جمال عبد الناصر في مصر إلى تجربة حزب البعث في العراق وسورية التي طالت واستدامت، وما زالت مستمرة، عدا عن التجارب المُلحقة والمُقلدة، مثل حكم معمر القذافي في ليبيا وعمر البشير في السودان، منبعها ومنبتها الفكري والسوسيولوجي واحد، الهدف هو السلطة، والمعادلة هي القوم والعسكر. ناهيك عن مبدأ الطاعة لدى الملوك والأمراء. وكذلك الاستفتاء الذي يعتبر أسلوباً متقدّماً من أساليب الديمقراطية في البلدان الغربية المتحضرة، تحول مع الـ90% إلى شكل آخر من أشكال المبايعة لحكام هذه البلدان (حافظ الأسد وحسني مبارك وصدّام حسين و...)، الذي مكث أقل واحد منهم ثلاثين سنة في السلطة!

حكم النظام السوري اللبنانيين جماعاتٍ وأفراداً بتطويع الصيغة الغنية والمركبة، وإلغاء التجربة الديمقراطية وتسطيحها و"جمهرتها" عبر إلغاء التنوّع والتعدّد

النموذج واحد. وفي حين اقتصرت هذه الظاهرة - النهج على جماهير تلك البلدان، وفي داخلها، إلاّ أنّ النظام البعثي الذي يحكم سورية، عبر الأب ثم الابن، منذ أكثر من نصف قرن، أراد تعميم تجربته الفريدة ومدّها إلى لبنان الذي ما زال يعتبره جزءاً اقتطع منه. حكم الأسد لبنان نحو ثلاثين سنة، أراد خلالها التعويض عن أطماع الجغرافية بـ"سورنة" السلطة والتركيبة اللبنانية. حكم اللبنانيين جماعاتٍ وأفراداً من خلال العمل على تطويع الصيغة الغنية والمركبة، وإلغاء التجربة الديمقراطية وتسطيحها و"جمهرتها" عبر إلغاء التنوّع والتعدّد السياسي والطائفي والمناطقي، بدءاً بدعم الفلسطينيين ضد المسيحيين، ثم تحريض المسيحيين على الفلسطينيين والمسلمين، تبعه زرع الفتنة داخل الصفّ المسيحي، ولاحقاً بتأليب المليشيات على بعضها داخل الفريق الواحد، غير أنّ الأهم والأخطر من هذا التدجين والتفتيت الممنهج هو إيجاد ولاءات عابرة للأحزاب والطوائف والزعامات والأفراد، من وليد جنبلاط الذي زار دمشق في 1977 بعد أربعين يوماً على اغتيال والده، كمال جنبلاط، إلى كسب ولاء سليمان فرنجية الجد وإبعاده عن الفريق المسيحي بعد اغتيال ابنه طوني عام 1978، وبالتالي ولاء الحفيد سليمان نجل طوني، ثم لاحقاً ولاء عمر كرامي بعد اغتيال شقيقه رشيد كرامي عام 1987. وبين هذا وذاك قائد "القوات اللبنانية" إيلي حبيقة، الذي انتقل عام 1985 من ضابط الارتباط مع إسرائيل إلى حليف للأسد، وتوقيعه في دمشق على "الاتفاق الثلاثي" لإنهاء الحرب مع خصميه يومها، جنبلاط ونبيه برّي الذي أشهر ولاءه المطلق بالحرب التي شنّها على المخيمات الفلسطينية والحصار الذي فرضه عليها بقرار من النظام السوري، والذي استمر ثلاث سنوات. تطويعٌ تحوّل إذاً إلى ولاءاتٍ طاولت كلّ أطياف الاجتماع اللبناني، عمل النظام السوري على ترسيخها من خلال إشراك الجميع في السلطة التي كان يمسك بزمام قرارها، تاركاً لهم الكراسي والحصص والمغانم، وفارضاً تهميشاً على كلّ من يعارضه. تماماً كما يفعل حزب الله اليوم!

عزّزت الحرب الهمجية ومليشياتها الوجه الآخر لثقافة الولاء عبر أدلجة ناسها، وتعبئتهم ضد ناس الفريق الآخر، وتحويلهم إلى قطعانٍ ضمن غيتوات يتغذّى واحدهم من العداء للآخر

وراحت ثقافة الولاء تشقّ طريقها لدى كلّ الأطراف والزعماء، من دون استثناء، ممن يتصارعون على السلطة في ما بينهم، لكنّهم، في المقابل، يحتكمون لدمشق، أو حتى للحاكم العسكري السوري المقيم في البقاع، لحلّ خلافاتهم أو الحصول على مبتغاهم. وفي الموازاة، عزّزت الحرب الهمجية ومليشياتها الوجه الآخر لثقافة الولاء عبر أدلجة ناسها، وتعبئتهم ضد ناس الفريق الآخر، وتحويلهم إلى قطعانٍ ضمن غيتوات يتغذّى واحدهم من العداء للآخر، ما يشدّ عصب الولاء السياسي والتأليه الزعاماتي والتعصّب الطائفي، ويكوّن وقائع وتعبيرات وسلوكيات مختلفة، إلاّ أنّهم، في النهاية، يتشابهون، ويشكّلون أوجهاً متعدّدة لظاهرة واحدة. لذلك، استمر هذا النهج، حتى بعد انسحاب جيش سلطة الوصاية، وتراجع نفوذ النظام السوري في لبنان، لأنّه أصبح مرسّخاً ومتشابهاً حتى بتعبيراته السياسية والسوسيولوجية التي زاد من حدّتها إفلاس الطبقة السياسية وارتهانها، والانهيار الاقتصادي، والانتهاك للسيادة، والتصحّر الثقافي، وسقوط القيم، ما يجعل كلّ شيء مشابهاً لكلّ شيء ومساوياً له في السوء!
وهكذا، ردّاً على اتهام وزير خارجية لبنان، شربل وهبة، العوني الانتماء وصاحب السلوك الأرعن والجهل المدقع، السعوديين، في حوار تلفزيوني بأنّهم "بدو" نصبت السفارة السعودية خيمة، وراحت تستقبل فيها وفوداً من مختلف الأحزاب والشخصيات السياسية والفعاليات التي ما زالت تزحف منذ أيام لتعلن تضامنها مع المملكة، ولتعبر عن استنكارها كلام الوزير، ولتجلس القرفصاء في مشهدٍ يحاكي زمن العصور الغابرة يوم كانت تؤدّى فروض الولاء والطاعة لزعيم القبيلة أو العشيرة، فهذا يُغدق الكلام المعسول، وذاك ينشد أبياتاً من المديح في مغالاةٍ لا نعتقد أنّ حكام السعودية نفسها يرغبون بمثلها. علماً أنّ الوزير نفسه قال كلاماً خطيراً في السياسة عندما دافع في المقابلة عن سلاح حزب الله، وقال إنّ الحفاظ عليه أهم من معالجة الانهيار الاقتصادي. واتهم دول الخليج بإرسال إرهابيين من "داعش" إلى لبنان، متناسياً أنّ الجيش اللبناني هو من قاتلهم في جرود البقاع صيف 2017 وهزمهم وشرّدهم، فسارع حزب الله، بالاتفاق مع النظام السوري، إلى تأمين نقلهم عبر حافلاتٍ مكيفة إلى دير الزور في سورية.

33 ألف سوري فقط شاركوا في عملية التصويت في الانتخابات الرئاسية السورية، أي ما نسبته 2.2% من السوريين الموجودين في لبنان الذين يصل عددهم إلى مليون ونصف

هذا النمط من السلوك الذي يعكس مدى التراجع في مصداقية الطبقة السياسية يقابله سلوكٌ آخر وصنفٌ آخر من صنوف الولاء التي مارسها السوريون المغلوب على أمرهم، والذي يعكس إذلالاً لكرامتهم وإنسانيتهم، اضطرارهم إلى الزحف من مختلف المناطق اللبنانية في الانتخابات - المهزلة لتجديد البيعة والولاء لبشار الأسد الذي يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة، ويشرّد الملايين منهم، لاجئين في أصقاع الأرض، غير أنّ ما هو أكثر وقاحة في هذا القمع المزدوج الذي يمارس على السوريين تجنّد فريق من اللبنانيين "شديدي" الحماسة والولاء للنظام البعثي مع عدد من المندسّين، لمواكبتهم رافعين الأعلام السورية وصور الأسد، في تحدٍّ للبنانيين كثيرين، ولما ذاقوه من ويلاتٍ على أيدي جيش الأسد خلال سنوات الحرب الطويلة، ولما فيه من تحدٍّ أيضا لشعور نازحين سوريين كثيرين يتعرّضون لمختلف أنواع القهر والإذلال المزدوج، سواء من النظام السوري وأدواته في لبنان أو من الأجهزة اللبنانية المتواطئة معه. وعلى الرغم من كلّ هذه المغالاة في الولاء والتزلف، فإنّ هذا الاستفتاء خذل هؤلاء، كاشفاً أنّ 33 ألف سوري فقط شاركوا في عملية التصويت، أي ما نسبته 2.2% من عدد السوريين الموجودين في لبنان الذين يصل عددهم إلى مليون ونصف مليون شخص، بحسب إحصاءاتٍ رسمية.

انبرت مجموعة من الشباب الذين ينتمون، على الأرجح، إلى حزب القوات اللبنانية، للتعرّض للحافلات التي تقل السوريين المتوجهين إلى التصويت

ولكي تكتمل صورة مشاهد الولاء المتنوعة، وتتساوى فيها المشارب السياسية والطائفية والعصبوية، انبرت مجموعة من الشباب الذين ينتمون، على الأرجح، إلى حزب القوات اللبنانية، للتعرّض للحافلات التي تقل السوريين المتوجهين إلى التصويت، خلال عبورها في بعض المناطق المسيحية، فبغض النظر عن مدى قناعة السوريين بما يقومون به، وإذا كان هذا يعبر حقيقة عن إرادتهم، إلاّ أنّه من حقهم، أو حق من هو مقتنع بذلك منهم، أن يمارسوا هذا الحق كما يرونه مناسباً، علماً أنّ النتائج أثبتت العكس، فكانت مشاهد من الحقد والتعصب والجهل، التي تعكس تطبّعاً مع ولاءاتٍ هم في النهاية ضحية لها، فعلى الرغم من انكفاء نظام وصاية "البعث" الأسدي، فإنّ ثقافة الولاء التي حفر لها عميقاً ترسّخت في العقول والنفوس. وهكذا، يسعى زعماؤهم - كلّ الزعماء - إلى إغراقهم بها أكثر فأكثر مع استفحال أزمة البلد التي أدّت إلى انكشافهم، وتنكّر جيل العشرينات لهم، جيل التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، جيل انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، جيل الأنا الفرد، لا الجماعة والجماهير. لذلك، صراع الأجيال فُتح، لكنّه في بدايته.

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.