لا بديل عن الدولة بمواجهة الاحتلال في لبنان

لا بديل عن الدولة بمواجهة الاحتلال في لبنان

28 يناير 2024
+ الخط -

في ظلّ الإبادة في غزّة واحتمالية الحرب الموسّعة في لبنان، يطرح المجتمع اللبناني تساؤلاتٍ جدّية حول سُبل الحماية والتحرّر، إن كان على المستوى الفردي أو الوطني. سردية حزب الله وجمهوره واضحة: في وجه الضربات والخروقات والانتهاكات، علينا جميعاً التمسّك بحزب الله خياراً مقاوماً مقابل خيارٍ استسلامي يتمحور حول الاتفاقات الدولية ومسارات السلام. أما بالنسبة لجمهور "اليمين المسيحي"، فالحماية ترتكز على "الانفصال الكامل" عن مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية، والتي هي تحت سيطرة حزب الله الأمنية - السياسية المباشرة.

ما بين مشروع التمسّك بحزب الله ومشاريع الطلاق المجتمعي الكامل، نشهد اليوم حرباً صارمة على المساحة السياسية الثالثة التي أنتجتها الحركة الاعتراضية "اللا-طائفية" في البلد. هذه المساحة، رُغم تناقضاتها الثقافية والاجتماعية، ثبّتت مسار "بناء الدولة" مكوّناً أساسياً ضمن نظريتها للتغيير المجتمعي، "فالدولة" كانت الردّ على الأزمة الاقتصادية، و"معضلة" حزب الله والتوترات الإقليمية. اليوم "الدولة" غائبة كمفهوم تفسّر العلاقة الممأسسة ما بين أفراد المجتمع، مع تنوّع مصالحهم وآرائهم المتناقضة، وبالتالي، جرى تغييب النقاش حول طبيعة هذه الدولة ودورها، لتصبح السياسة فقط هواية لمن يملك السلاح والمال.

علّق طلاب وطالبات في شبكة مدى والأندية العلمانية يافطة على بعض جسور بيروت، ولكن النشاط انتهى بعد بضع ساعاتٍ على جسر الرينغ عندما "اعترض" مناصرون لحزب الله على المضمون: "بناء دولة قادرة تملك قرار حمايتنا". من التهديد بالقتل إلى سلب اليافطة بالقوة، قرّر هؤلاء أنّ السياسة اليوم هي لكلّ من يملك القدرة على فرضها بالقوة. فبحسب هذا النوع من العمل السياسي، الصراع على الرأي العام انتهى؛ الرأي العام اليوم هو أداة القوي الذي يحتاج إلى خطاب تخويفي يترافق مع العنف المليشياوي.

باءت بالفشل جميع المحاولات لمواجهة حزب الله وحلفائه من منحى طائفي أو مناطقي

تشير "السياسة للقوي" أيضاً إلى إعادة إنتاج علاقة زعيم المليشيا بجمهوره: الطاعة لمن يملك الصاروخ والخبرة العسكرية المتراكمة والحسابات الضيقة التي تدور في الغرف السوداء. فمن نحن؟ نحن مواطنون عاديون؛ ليس لدينا تاريخ حافل بالانتصارات العسكرية، ولا تجارب حُكم (فاشلة أو ناجحة) في سيرتنا الذاتية المتواضعة. كيف نتحدّى هؤلاء الذين استطاعوا أن يكونوا جزءاً من ساحات الدمّ والسلطة؟

فهكذا وصف حسام مطر هؤلاء الذين يطرحون التساؤلات والتحاليل عن حزب الله وقدراته: "بعض الصحافيين اللبنانيين "المخضرمين" يكتبون مقالات [...] لتقديم سردية وتحليل يهدف إلى تخويف المقاومة وإثارة قلقها، [...] استحوا وكبروا عقلكم [...]، ما تعرفه المقاومة عن عدوها، نياته وقدراته وتفاعلاته وحساباته وآلية اتخاذ القرار عنده، لا يخطُر ببالكم، وقدرتها على الاحاطة الاستراتيجية بالصراع ومحدّداته وتفاعلاته وسيناريوهاته يعجز عقلكم الارتزاقي عن تصورها".

في المقلب الآخر، استطاع نقيض حزب الله الطائفي، وتحديداً حزب القوّات اللبنانية وبعض الدوائر اليمينية المتطرّفة التي شاركت نصر الله في تحريضه على الأقليات المهمّشة في البلد منذ أشهر، إقناع عدد كبير من الجمهور المعاكس بأنّ مشروع بناء الدولة قد انتهى، والآن أصبح لبنان أمام التقسيم الحتمي. من الاعتراض على تقديم التعويض لأهالي الجنوب المتضرّرين من القصف، إلى التعاطي مع الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان كجزر "إيرانية"، تعاني النظرية التقسيمية من قراءة غير واقعية للنسيج الاجتماعي في هذه المناطق وارتباطها الجغرافي والبشري بالعاصمة.

من المغالطات الشائعة في لبنان اختزال الدعوة إلى بناء "دولة قادرة" بالدعوة إلى تسليح الجيش اللبناني أو دعمه فقط

في العقود الثلاثة الماضية، باءت بالفشل جميع المحاولات لمواجهة حزب الله وحلفائه من منحى طائفي أو مناطقي. بالإضافة، لم تكتف هذه المحاولات بالفشل، بل عزّزت الطابع الانعزالي للخطاب السياسي والاجتماعي المهيمن في البلاد، مغيّبة الترابط العضوي بين أهالي المناطق المختلفة وأحادية تجربة التهميش والقمع من نظام سياسي واقتصادي يتغذّى على التقسيم والمنطق الأصولي.

من هنا، يبقى الخطاب الديمقراطي اللاطائفي النقيض الأوّل لحزب الله والقوّات اللبنانية والأحزاب اللبنانية التقليدية كافّة. بالرغم من العوائق والعقبات التنظيمية والمجتمعية الكثيرة، أهمّها حالة الحرب، والضيق الاقتصادي، وشلل حركة المعارضة التنظيمي، يبقى هذا النهج الوحيد القادر على طرح بديلٍ استطاع توحيد فئات طائفية متنوعة تحت عناوين وطنية. فجمع اللبنانيين ما بين طموحات الحاضر (بناء دولة ديمقراطية اجتماعية عصرية؛ ونقض التجربة الطائفية؛ والحفاظ على مجتمع تعددي حرّ)، وسرديات الماضي (الاعتراف بجرائم الحرب المتبادلة، والاعتراف بتداعيات الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية على حدٍ سواء).

لقد قدّم هذا الخطاب منظومة أخلاقية جامعة تعتبر الدستور مدخلاً لإعادة تأسيس المجتمع من القواعد. فتجمع ما بين ضحايا البلد منذ الحرب الأهلية تحت شعار "استعادة أدوار الدولة"، وليس فقط على المستوى الأمني، لطالما حذّرت من خطورة مشروع بيع أصول الدولة لإعفاء أصحاب المصارف من كلفة الانهيار. في المقلبَين، أي مقلب حزب الله ومقلب نقيضه الطائفي، نرى محاولاتٍ لخنق الفضاء العام والحوار الذي يتعلّق بطبيعة السياسات والمؤسسات التي تحتاجها البلد، واستبداله بديكتاتوريات محلية صغيرة تقرّر بالعسكر بعد الفشل بالسياسة.

أحد أهمّ الأدوات التي يلحظ المجتمع غيابها هي الاستفتاءات الشعبية والأطر الديمقراطية التي قد تؤمّن حدّاً أدنى من التوافق الاجتماعي

... من المغالطات الشائعة في لبنان اختزال الدعوة إلى بناء "دولة قادرة" بالدعوة إلى تسليح الجيش اللبناني أو دعمه فقط، فبناء الدولة أبعد بكثير من ذلك. فيما يخصّ الحرب القائمة حالياً، أدّى غياب أسس ديمقراطية تجمع مختلف أطياف المجتمع إلى غياب استراتيجيّة رسمية تحمي المتضرّرين من العدوان الإسرائيلي. سواء على صعيد تأمين التجهيزات الاستشفائية اللازمة، أو البنى التحتية والملاجئ لتأمين سلامة المقيمين تحت القصف، أو الخدمات الضرورية والبدائل الاقتصادية والمعيشية لمن فقد سبل تأمين المدخول اليومي، أو شبكات حماية لازمة للأكثر عرضة، يبقى غياب دولة تستثمر في مجتمعها هو العائق الأكبر والأوضح في الأشهر الماضية. وفي ظلّ الأحداث أخيراً، تبيّن أنّه لا يمكن استبدال الدولة على المستويين، الأمني والإنساني، بميزانية حزب سياسي أو مليشيا.

ولن نملأ هذا الفراغ القاتل بجمع المساعدات من الدول الصديقة. بناء الدولة عملية تتمحور حول استخدام جهاز ضريبي واستثماري مباشر، وتسهيل الإنتاج المعرفي والتكنولوجي، وإحداث فضاء عام حرّ ومنتج، والحفاظ على عملية ديمقراطية مفتوحة، وتطبيق سياسات نقدية متّجهة نحو تحفيز الابتكارات والتوظيف. "بناء الدولة" ليس حلماً أو ترفاً، بل ضرورة للعيش الكريم. "بناء الدولة" يستوجب قرارات فورية وخطة منضبطة، وإرادة سياسية طموحة قائمة على رؤية. حزب الله، منذ "7 أيار"، يملك قدرة تعطيلية في الدولة، ولكن لا رغبة لديه في بناء مؤسّساتٍ قد تتحدّى شبكته الأمنية.

ومن هنا نشدّد على أهمية الأسس الديمقراطية؛ فأحد أهمّ الأدوات التي يلحظ المجتمع غيابها هي الاستفتاءات الشعبية والأطر الديمقراطية التي قد تؤمّن حدّاً أدنى من التوافق الاجتماعي، في ظلّ استحقاقات بهذا الحجم. يبقى غياب هذه الأسس سبباً ونتيجة في آن، لازدياد التوتّرات الاجتماعية والشرخ الاجتماعي، ما يشجّع الحلول الانعزالية المبنية على أساس طائفي أو مناطقي. ويضرب قوّة المجتمع وتماسكه في وجه أي عدوان.

مروان وكميل
مروان عيسى وكريم صفي الدين
كاتب وباحث لبناني في الاقتصاد السياسي- باحث وطالب دكتوراه وعضو في شبكة مدى الشبابية.