كيف تغيّرت مشاعرنا

كيف تغيّرت مشاعرنا

02 ابريل 2022

كل شيءٍ يمكن مشاهدته، طالما كاميرا الجهاز المستخدم على وضعية التشغيل (Getty)

+ الخط -

من أحد أهم الاستثناءات التي يتميّز بها عصرنا الحالي (ليست كل الاستثناءات فيه جيدة) انتشار وسائل التواصل والاتصالات التي ألغت، وبشكل شبه نهائي، مفهوم المنفى والبعد والشوق إلى الأحبّة، أهلاً وأصدقاء، وجعلت من البشرية، ليس قرية صغيرة فقط، بل يمكن القول إنها حوّلتها إلى بيت واحد، ذلك أنه يمكن لمجموعة كبيرة من البشر التشارك معاً في الوقت نفسه عبر التواصل، صوتاً وصورةً في كلّ شيء، الحديث والتفاصيل المحيطة بالأشخاص المتصلين معاً: الجديد في مظهرهم، ملابسهم، أثاث منازلهم، أولادهم أو حيواناتهم الأليفة، المكان حولهم، أين يعيشون (في المدينة أو في الريف)، كل شيءٍ يمكن مشاهدته وتأمل تفاصيله، طالما كاميرا الجهاز المستخدم موضوعة على وضعية التشغيل، وطالما الشاشة التي أمامنا جاهزة لتلقّي ما تبثه الكاميرا.

هذه الطفرة في وسائل الاتصال، والتي نشهد كل يوم خطواتٍ جديدةً في تطورها، حوّلت الحنين إلى حالة كوميديا رومانسية، إذ عن أيّ حنينٍ يمكن لأحدنا أن يتحدّث اليوم، بينما العالم على هذا القدر من الانفتاح والانكشاف الذي تنتفي معه الأفكار حول الخصوصية، سواء خصوصية الفرد في حياته الشخصية أو خصوصية الجماعات والشعوب. كلّ شيء متاح وواضح ومكشوف، وكل شيء مباح ومستباح ومقتحَم، حتى أفكارنا الشخصية تبدو وكأن ثمّة من يرصدها ويعرضها أمامنا، عن أيّ حنين نتحدث هنا إذاً؟

ربما تفيد حالة السوريين حالياً في توضيح الكوميديا بشأن فكرة الحنين، إذ تفرّق السوريون وانتشروا في كل العالم، ما جعل فكرة العائلة (الملمومة) تختفي مع هذا الانتشار، فالعائلة الواحدة يعيش أفرادها كلّ في مكان أو بلد أو قارّة أخرى، ما من عائلة سورية أعرفها بقيت على حالها. ومع ذلك، لن تنقطع هذه العائلات عن التواصل اليومي عبر واحدةٍ من وسائل الاتصال الحديثة (صوت وصورة)، وإن حدث واجتمعت العائلة، واقعياً في مكان واحد، ذات يوم، فلن تتوفر تلك اللهفة القديمة في اللقاء، والتي كانت تحدُث في زمن الرسائل الورقية والهواتف الأرضية، ذلك أنّ أفراد العائلة يعرفون كل شيءٍ بعضهم عن بعض، ما من جديد سوف يضيفه اللقاء الحي على الإطلاق سوى الإحساس بالقرب الجسدي والتلامس، والذي على ما يبدو أن الفيروس استطاع، في السنتين الماضيتين، تحويله إلى ترفٍ يمكن الاعتياد على العيش بدونه. أما لمن تبقّى في سورية من العائلات السورية فيمنعهم التردّي في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية عن التواصل الحي إلا لأفراد البيت الواحد، حتى المناسبات الاجتماعية شديدة الخصوصية، كالمشاركة في دفن عزيز راحل والعزاء فيه، باتت نادرة وشحيحة. كله يتم عبر وسائل التواصل والاتصال التي تنقل أيضاً للسوريين في الخارج كلّ البؤس والخراب والانهيار في المجتمع السوري حالياً، ما يجعل من الحنين فكرة كوميدية حقاً، أو فكرة مرضية تدلّ على عدم قدرة صاحبها على الاندماج في حياته الجديدة أو في مكانه الجديد، ما يجعله محبوساً في ذكريات ماضٍ (لا تمت للواقع الحالي بأيّة صلة أو تشابه) يشتاق إليها، ويرى فيها كل حياته، فيتمكّن منه الحنين تماماً ويمنع عنه مواصلة الحياة.

جئت إلى فرنسا، قبل عشرة أيام، لرؤية عائلتي بعد أربعة أعوام من آخر لقاء لنا معاً. كنت سعيدة حتماً، خصوصاً في لحظة اللقاء الأولى، لكن شعوراً راودني بأن آخر لقاء لي بهم كان بالأمس، لا قبل أعوام، ذلك أنني أعرف كل ما يتعلق بهم، بدءاً من خطوط التجاعيد على وجوههم وعدد الشعرات البيضاء في حواجبهم وعدد الكيلوغرامات التي فقدها أو زادها أحدهم، وليس انتهاءً طبعاً بأحوالهم الصحية والنفسية والاقتصادية، حتى الأحاديث التي نتبادلها كلّ يوم لا شيء مثيراً فيها، إذ نتبادلها منذ سنوات عبر وسائل التواصل، ما جعل من اللقاء الحالي فرصةً للاحتضان وإشباع الحواس كلها، والتزوّد بمقدارٍ من الحنان يكفي حتى موعد اللقاء المقبل.

تغيّر العالم كثيراً مع اختراع التكنولوجيا الحديثة، ومنها وسائل التواصل، وأصبح العيش أكثر سهولة ويسراً مما كان سابقاً، خصوصاً فيما يخصّ المعلومة والتوثيق والتواصل والعمل وكل ما له علاقة بالشأن اللوجستي في العيش. لكن مع هذا التغيّر، تغيّرت مفاهيم كثيرة لطالما شكّلت موادّ مهمة للفنون والأدب، الحنين والوطن والعائلة مجرّد أمثلة، يمكننا من خلالها التنبؤ قليلاً بالفردانية والاستقلالية المهولة التي تتجه إليها البشرية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.