كائنات غير اجتماعية

كائنات غير اجتماعية

08 فبراير 2021
+ الخط -

في حوار مع طفلة في الثانية عشرة من عمرها، لا يكاد "الآي باد" يفارق يدها، قالت إنها لا تعرف الفرق بين فيروز وأم كلثوم. أما عبد الحليم وفريد الأطرش وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة، فأسماء لا تعني لها شيئاً. وفي ردّها على سؤال عن المغنين المفضلين لديها، أو "الكول" كما وصفتهم، أمطرتني بقائمة طويلة من أسماء لم أسمع بها من قبل، على الرغم من اعتقادي الواهم أنني متابعة جيدة للموسيقى العالمية. لم أعترف بجهلي من باب المكابرة وادعاء العصرية. ذكرت لها ما أحفظ من أسماء، مثل ليدي غاغا وبيونسه وجنيفر لوبيز. ردت بحزم: "هدول قديمين". حاولت مجاراتها، والاستماع إلى نماذج من مقترحاتها ذات الموسيقى الصاخبة والإيقاع الرتيب المتكرر، واللغة الخشنة العنيفة، والألفاظ الجارحة غير اللائقة.
ثقافة مرعبة يتعرّض لها صغارنا من دون تدخلٍ من الأهل الذين فقدوا سلطتهم الرقابية بسبب تفوق صغارهم التكنولوجي، ولم يعودوا قادرين على فرض أي قوانين مسلكية ترشدهم إلى الطريق الصحيح، فالأهل لم يعودوا مصدراً للمعرفة أو للمفاهيم الأخلاقية الأساسية، حتى إمكانية التواصل الإنساني البسيط من محادثة وشجار لم تعد ممكنة. وأظن أن الصراع حسم مبكراً لمصلحة هؤلاء الصغار الممعنين في الاغتراب عن الواقع، المأخوذين بالكامل إلى دنيا الافتراض المتشعبة التي قضت على ملامحهم الإنسانية، واغتالت طفولتهم، وحولتهم إلى كائنات غير اجتماعية، يلوذون بحجراتهم المجهّزة إلكترونياً بكل وسائل العزلة التي تُقصيهم عن العائلة، فترهلت أجسادهم وضعف بصرهم وتبلدت حواسّهم. ثم أتت كورونا على ما بقي لهم من إمكانية التفاعل والتعلم من قرب، حين أقفلت أبواب مدارسهم، فلا حصة رياضة تبيح لهم الركض في الملاعب، ولا حصة فن تُطلق مخيلاتهم، ولا مسرح مدرسياً يفجّرون فيه طاقاتهم، ولا رحلات مدرسية يتوقون إليها لقضاء وقت نوعي مع أصدقائهم. هكذا صار انعزالهم مشروعاً، بل ومطلباً وقائياً لا بد منه، ما جعل الأهل غير قادرين على مصادرة هواتفهم وأجهزتهم الإلكترونية الحديثة من باب العقوبة والتأديب، إذ لم يعد ذلك مجدياً، لكونه يحول دون تحصيلهم المدرسي الذي لم يغادر منطقة الافتراض، حيث إمكانية الاحتيال على المعلمين والتهرّب من حضور الحصص، ما يجعل نتائج الامتحانات غير دقيقة، إذ يبادر بعض الأهل، من دون شعور بالمسؤولية، إلى الإجابة عن الأسئلة، حرصاً على تحقيق النجاح السهل للأطفال المشغولين بتحقيق نتائج التفوق في "البلاي ستيشن"، حيث يتاح لهم ممارسة العنف وقتل الخصوم، ما يعزّز الروح العدائية في نفوسهم.
سألت الصغيرة عن "اليوتيبور" المفضل لديها، أجابت بحماسة بأنها تتابع السوريين، أنس وأصالة، باستمرار. أخبرتني أن عدد متابعيهما وصل إلى أحد عشر مليون متابع، وأنهما يحققان ملايين الدولارات من "يوتيوب"، بسبب كثافة عدد المشاركين في قناتهما، وقد بلغا من التأثير عبر "يوتيوب" أن شركة مقاولات كبرى في العالم العربي أهدتهما فترة زمنية على برج خليفة في دبي، لإعلان نوع مولودهما المنتظر وسط ضجة إعلامية كبرى. اضطررت إلى التجول من باب الفضول في قناة الثنائي الشهير، لأصاب بالصدمة من كمية التفاعل مع ما يقدّمانه من محتوى عائلي، يتعلق بتفاصيل يومية عادية تافهة غير مهمة. وكان الثنائي قد أعلن، في أحد البرامج الحوارية، أن دخلهما المادي، الذي يجنيانه من قناتهما، يعادل ما يزيد على راتب الطبيب والمحامي معاً، ما ساعدهما على شراء سيارة ومنزل في مدةٍ لا تزيد على ستة أشهر. وفي أحد الفيديوهات، يقومان، بشكل استعراضي مبتذل للبذخ والترف، بجولة في شقتهما الفاخرة في دبي، غرف النوم بمحتوياتها من خزانة الثياب والأسرّة والحمامات والمطبخ الفسيح، محتوى أقل ما يمكن أن يوصف به أنه سطحي وركيك، ويقول الكثير عن مزاج بشر كثر ومستوى تفكيرهم، ويزيد من أبناء هذا الجيل التائه في الضحالة والرثاثة إلى غير رجعة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.