قراءة هادئة في خطاب نصر الله
لم يشفِ خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، أول من أمس الجمعة، صدور قومٍ مقاومين، فقد تضمّن، في مجمله، وصفًا للحرب وتحليلًا لها، وإشادة بالمقاومة الفلسطينية وحركة حماس وقرارها المستقل وانتصارها المبهر في معركة طوفان الأقصى، والتأكيد على انخراط حزب الله في المعركة منذ يومها الثاني، بعد زوال مفاجأة اليوم الأول (7 أكتوبر)، ضمن قواعد اشتباك التزم بها الحزب والكيان الصهيوني، تشمل ضرب المواقع الحدودية للعدو بعمق 3-5 كم، والتي تضم أبراج مراقبة واتصال وتجسّس، ومواقع أمامية تهدف إلى توجيه جزءٍ من قدرات العدو القتالية من جبهة غزّة إلى الجبهة اللبنانية، مهدّدًا بتوسيع قواعد الاشتباك، بحيث تصبح "مدني مقابل مدني"، إذا استهدف العدو المدنيين اللبنانيين. ولم يشمل هذا التهديد المقتلة اليومية للمدنيين الفلسطينيين، والذي كان أحد خطوط حمراء هدّد فيها مسؤولون في الحزب بانخراط مقاتليه في حربٍ شاملةٍ عند بدء الاجتياح البرّي، أو عند ارتكابه مجازر كبرى بحقّ المدنيّين الفلسطينيين. لم يتطرّق الخطاب إلى الخطوط السابقة، وحدّد خطًا أحمر جديدًا، يتمثل في عدم السماح بتصفية حركة حماس أو هزيمتها، في حين أُنيطت مهمّة وقف العدوان بالدول العربية والأمم المتحدة ومنظمّات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي.
تصفية حركة حماس أو هزيمتها معيارٌ فضفاض، يلزمه تحديد قياس الهزيمة والنصر، ولعل نتيجة الحرب قد حُسمت منذ 7 أكتوبر، وتعزّزت نتيجتها بعد 28 يومًا من بدايتها، ويعلمنا التاريخ استحالة تصفية حركات المقاومة، ويقول لنا الخبراء، بما فيهم الأميركيون، إن أهداف العدو بتصفية "حماس" عسكريًا لا تمت للواقع بصلة، كما يثير هذا المعيار أسئلة أخرى، مثل من يحدّد وقت حدوث نقاط التحوّل في الحرب؟ وهل يصبح حينها التدخّل مجديًا وضروريًا، أم يكون قد فات أوانه؟ لعلي أحسن الظن وأقول إن من وضع هذا الخط الأحمر واثقٌ بانتصار المقاومة في غزّة، ويبني على ذلك عدم الحاجة إلى التدخّل في معركة شاملة في هذا الوقت، ويزداد هذا الاحتمال مع حديث نصر الله في خطابه، أول من أمس الجمعة، أن معركة تحرير فلسطين لن تتم بحرب واحدة شاملة، وإنما عبر تسجيل مجموعة من النقاط، وأن هذه الحرب لن تكون الأخيرة، فلا داعي لزجّ كل مقدّرات المقاومة في لبنان.
حدّد خطاب نصر الله خطاً أحمر جديداً، يتمثل في عدم السماح بتصفية حركة حماس أو هزيمتها
رفع إعلام حزب الله مستوى التوقّعات بشأن الخطاب، من خلال الموادّ الإعلامية التي نشرها ووزّعها على نطاق واسع، والتي أوحت أن مقاتلي الحزب قد تقدّموا باتجاه الجليل والضفة الغربية، وأن معركة التحرير الكبرى قد بدأت وحان وقت قطافها، فضلًا عن تصوير الأمين العام في أوضاع مختلفة في إعلانات موعد الخطاب المرتقب، تارّة يمشي ويتلفت، وتارّة يمسك قلمًا ويوقّع قرارًا، وكأنه قرار الحرب. ربما أراد القائمون على هذه الحملة إرباك العدو، ولعلهم نجحوا في إرسال رسائل بهذا المعنى، جعلته يتكلم عن خوض حرب في جبهتين في آن واحد. ثم بدا بعد الخطاب أن ثمة ارتياحا أميركيا وإسرائيليا للخطاب، وأن الإرباك الأكبر أصاب جمهورًا عريضًا بنى توقعاتٍ كبرى وآمالا لم تتحقّق، ساعدت على هذا تلك الدعاية التي كانت سائدة طيلة الأشهر الماضية عن "محور المقاومة" ووحدة الساحات، وعن اقتراب موعد الحرب الشاملة، والتي ساهمت في بعضها أيضًا تصريحات لبعض قادة حركتَي حماس والجهاد الإسلامي.
لم يكن خطاب نصر الله مفاجئًا لدى مراقبين عديدين، وقد أشار كاتب المقال إلى قواعد الاشتباك السارية على الحدود الشمالية في مقالين متتاليين في "العربي الجديد" منذ بدء عملية طوفان الأقصى، والدخول في الحرب أمر مختلف تمامًا عن الحملات الإعلامية والدعائية التي يحدُث أن ترتد أحيانًا فتصيب أهدافًا غير الأهداف المنشودة.
منطقتنا مفتوحة على جميع الاحتمالات، وهذا يتطلّب رصّ الصفوف خلف المقاومة الباسلة في فلسطين، وتجنّب السجالات والانتقادات إلى ما بعد تحقيق النصر
حصل حزب الله على شرعيّته عبر قتال الجيش الإسرائيلي وعملائه بعد حرب عام 1982، التي أسفرت عن هزيمة الاحتلال في الشريط الحدودي، وانسحابه المذلّ من جنوب لبنان عام 2000، وازدادت قوته بعد صموده في حرب عام 2006، وفشل العدو في تحقيق أهدافه المعلنة بتصفية حزب الله واسترداد الأسيرين من دون قيد أو شرط، تمامًا كما يحدث الآن في غزّة، لكن شرعية الحزب التي نجمت عن التزامه بقتال الكيان الصهيوني استُخدمت أيضًا لدى تشكيل ما عُرف "بمحور المقاومة" في تسويغ القتال في سورية والعراق واليمن، وزيادة النفوذ الإيراني الإقليمي في المنطقة. لم تنضم المقاومة الفلسطينية إلى هذا المحور في الفترة الماضية، ولم تنجرّ إلى الانضمام إلى المعارك الدائرة في هذه الدول، وما فتئت تدعو إلى إنهاء حالة الاستقطاب والنزاع فيها، وإعادة البوصلة نحو فلسطين، وهو ما أدّى، في وقت سابق، إلى خروج قيادات حركة حماس من سورية. ثم، أخيرا، عاد التقارب والتعاون على قاعدة النضال المشترك ضد العدو الصهيوني، وشمل نقل خبرات وأسلحة وتدريب، مع محافظة المقاومة الفلسطينية على استقلالها الكامل، وهو ما أوضحه نصر الله في خطابه. من هذا المنطلق، ينبغي فهم العلاقة بين المقاومة الفلسطينية وحزب الله وإيران، فالمقاومة ليست طرفًا في أي محاور إقليمية، وهي ترحّب وترغب بجميع أشكال الدعم والتعاون والتأييد، على قاعدة أولوية القضية الفلسطينية. ومن هذا المنطلق، لا ينبغي تحويل خطاب نصر الله إلى موضوع سجالي، أو الادّعاء بأن المقاومة الفلسطينية في غزّة وحدها في الميدان، وينبغي الاعتراف أن ما يقوم به مقاتلو الحزب، مع احترام الرغبة بانخراط أكبر في المعركة، أمرٌ إيجابيٌّ ومقدّر ومهم، شأنه شأن حراك الجماهير العربية والغربية، فجميعها عوامل قوة تُضاف إلى قوة المقاومة في غزّة.
يستند حزب الله في موقفه الحالي إلى أن شرعية سلاحه في لبنان مستندة إلى معادلة الشعب والجيش والمقاومة، وهدفها محصور بتحرير مزارع شبعا، وتحت هذا الشعار حصل على تأييد قوى سياسية لبنانية مختلفة لاستمرار وجودِه المسلح، وهو ما يشكّل أساس موقفه الحالي الذي سيبقى محصورًا بقواعد الاشتباك الحالية التي قد تتطوّر أو تزيد بمقدارٍ محدود، حفاظا على المعادلة اللبنانية الداخلية. إلا أن تطوّر هذا الموقف منوط أيضًا بالموقفين، الإسرائيلي والأميركي، إذ ثمّة تقديرات تقول إن العدو يخوض حاليا معركة الاستقلال الثانية، كما صرّح بذلك رئيس حكومة الحرب نتنياهو، فالكيان الصهيوني لا يحتمل ولا العالم خوض حرب جديدة كل عام. ومن هنا، ثمة احتمال كبير، أمام استمرار الحديث عن طول مدّة الحرب في قطاع غزّة واحتمالات اتساعها، أن يفتح الكيان الصهيوني الجبهة الشمالية وتوجيه ضربة استباقية لحزب الله، وهنا تكون مهمّة الأساطيل الغربية أن تحتوي ردّة فعل حزب الله وحلفائه وردعهم. وهو ما على قيادة الحزب أن تقدّره حقّ تقديره، قبل فوات الأوان.
منطقتنا مفتوحةٌ على جميع الاحتمالات، وهذا يتطلّب رصّ الصفوف خلف المقاومة الباسلة في فلسطين، وتجنّب السجالات والانتقادات إلى ما بعد تحقيق النصر.