في مآلات الأزمة الأوكرانية

في مآلات الأزمة الأوكرانية

20 فبراير 2022
+ الخط -

وصلت الأزمة الأوكرانية إلى مفترق طرق، فالجميع أصبح مأزوما. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي حشد قواته على الحدود الأوكرانية لم يعد في مقدروه سحب تلك القوات حتى تتم الاستجابة لمطالبه، وإلا فإن معنى ذلك أنه هزم وسحب قواته من دون أن يحقق ما سعى إليه من خلال هذه الحشود العسكرية، وهي هزيمةُ لن يستطيع تحملها أمام شعبه وأمام الدولة الروسية ومؤسساتها. إنه يسعى إلى جعل أوكرانيا أشبه بالحالة الفنلندية في أثناء الحرب الباردة، حالة الحياد منزوعة السلاح، إلى جانب وجود ضمانات مكتوبة وتعهدات بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهي الدولة الأكبر داخل الاتحاد السوفييتي السابق التي لها حدود مشتركة مع روسيا تصل إلى 1,576 كيلومترا. انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" معناه قدرة الحلف على نشر صواريخ على الحدود الروسية وتطويق روسيا، وهو ما لن يسمح به بوتين والدولة الروسية العميقة، وهذا هو سبب تلك الحشود العسكرية في الأساس. في المقابل، كان يمكن أن تتعامل الولايات المتحدة مع الأزمة من خلال خيارين: الاستجابة لمطالب بوتين والتعهد بعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، ووقف تمدّده شرقا، وتجميد المسألة كما فعلت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل حينما نوقش هذا الأمر عام 2014. ولكن يبدو أن الولايات المتحدة كانت ترى في هذا الحل إضعافا لحلفائها الأوروبيين، وهزيمة لها في مواجهة غريمها الروسي. لذا فضلت الولايات المتحدة الخيار الثاني، إطلاق عملية دعائية كبرى حدّدت من خلالها ميعاد الغزو الروسي لأوكرانيا، وحشدت حلفاءها الغربيين، وسارعت بإمداد الجيش الأوكراني بالمعدّات العسكرية، لجعل أوكرانيا المصيدة التي سيقع فيها بوتين لتصطاده، أو هذا ما يعمل عليه لوبي الحرب داخل الولايات المتحدة، وبالتالي، فرض عقوبات اقتصادية كثيرة لن يتحمّلها الاقتصاد الروسي الهش أو الدولة الروسية. ولعل هذا ما أدركه بوتين، فبادر بعمل اتفاقية مع الصين، لتحمّل هذه العقوبات حال وقوعها، على أن الرهان على الصين في مثل هذه الأزمة لن يكون صحيحا بشكل كامل، فلن يكون بلا ثمن، بل سيكون ثمنه ما تريده الصين، ولن تكون مدته مفتوحة، لكنه أعطى بوتين نوعا من الميل في موازين القوى لصالحه إلى فترة معينة، يستطيع من خلالها أن يبقي على حالة التوتر مدة أطول، وبالتالي، الوصول إلى مطالبه التي يريدها، والسعي إلى فرض معادلة ردع جديدة داخل أوروبا.

يسعى بوتين إلى جعل أوكرانيا أشبه بالحالة الفنلندية في أثناء الحرب الباردة

في المقابل، تدرك أوروبا أن معنى وقوع حرب تضرّر أوروبا بأكملها، لأن المعارك ستكون على أراضيها، والولايات المتحدة لن تدفع ثمنا فادحا في الأزمة، لأن المعارك، ككل المعارك التي دخلتها، لن تكون على أراضيها. لذا، لا يريد الأوروبيون الحرب، ويفضلون حل الأزمة عبر الوسائل السلمية، وهذا ما يفسّر ذهاب قادة أوروبيين عديدين إلى موسكو (خصوصا الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني)، للوصول إلى حل سلمي للأزمة. وهنا بالتحديد، تظهر نقاط الخلاف الأوروبية الأميركية، خصوصا الألمانية، التي ترى أن عواقب الدفع باتجاه المواجهة ستكون كثيرة، ووحدها أوروبا ستدفع الثمن. وفي الوقت ذاته، ربط مصير القارّة كلها بالوحدة في مواجهة التغول الروسي، والتعاطي بشكل موحد، كما أشار المستشار الألماني أولاف شولتز، هو الحل الوحيد، وإبقاء الأبواب الدبلوماسية مفتوحة، وهو ما يذكّر بالموقف الألماني في أثناء الغزو الأميركي للعراق، حينما عارض المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر (الحزب الاجتماعي الديمقراطي) الدخول في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لغزو العراق، وهو الموقف نفسه، الذي يسعى إلى توضيحه المستشار الحالي (ينتمي للحزب نفسه) مع الأخذ في الاعتبار التغيرات الكبرى الحالية، أن المعركة بأبعادها المختلفة تدور على الأراضي الأوروبية.

الآن، كل الأطراف أصبحت مأزومة، فالرئيس الروسي بوتين لا يستطيع سحب قواته قبل الاستجابة له، وإلا فسيظهر بمظهر المهزوم، والولايات المتحدة والغربيون لا يستطيعون الرضوخ للمطالب الروسية، لأنها تعني فتح شهية روسيا أكثر فأكثر، وهزيمة لهم أمام روسيا. لذا، ستفضل كل الأطراف استخدام أدوات أخرى عوضا عن المواجهة المباشرة، وهو الدخول في الحرب بالوكالة، فقد يقوم بوتين بعدة خطوات، أولها أن يستصدر الكرملين قرارا بالاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، وهو ما يعني التبرير ليغزو أوكرانيا للدفاع عن الدولتين حال توغلت أوكرانيا فيهما. كما أنه سيقوم بإمداد الانفصاليين ومساندتهم عسكريا لفتح خط مواجهة مع الجيش الأوكراني، لاستنزافه في حرب استنزاف مفتوحة مع الأميركيين والغرب، الذين سيدعمون هذا الجيش كما يحدُث الآن. ولكن لهذه المسألة خطورتها، فستكلف حرب الاستنزاف تلك الخزانة الروسية الكثير، وهي محمّلة بأعباء أخرى في أماكن أخرى، مثل سورية. كما أن هذا يعني وجود حلف الناتو بالفعل على الحدود الروسية، وهو ما يرفضه الرئيس الروسي منذ البداية، لكنه قد تحقق بالفعل. ولكن يمكن اعتبار أن دعم الانفصاليين في حرب استنزاف مفتوحة هو سعي الرئيس الروسي بوتين إلى تفكيك أوكرانيا، خصوصا أن فيها أعراقا عديدة تتحدّث الروسية وتوالي روسيا، فهل سينجح في ذلك؟ وهل سيسمح الغرب بهذا؟

تدرك أوروبا أن معنى وقوع حرب تضرّرها بأكملها، لأن المعارك ستكون على أراضيها، والولايات المتحدة لن تدفع ثمناً فادحاً

قد يلجأ الرئيس الروسي، في الوقت نفسه، إلى تفجير خط الغاز "نورد ستريم 1" الذي يحمل الغاز إلى أوروبا، وبالتالي الضغط على أوروبا بصورة أكبر. وهنا قد تلجأ أميركا وأوروبا إلى حلفائها الخليجيين، خصوصا القطريين، لإمدادهم بالغاز، فيكون السؤال إلى أي مدى تستطيع قطر مثلا توفير الغاز لأوروبا؟ وهل سيؤثر ذلك على عقودها الآسيوية المبرمة؟ وماذا عن مصير خط الغاز "نورد ستريم 2"، وهل سيتخذ المستشار الألماني قرارا بوقفه؟ وهذا سيكون له تداعياته الكبيرة على الاقتصاد الروسي وعلى الأوروبيين في الوقت نفسه.

الخيارات الأميركية الأوروبية للرد على هذه التصرّفات الروسية قد تعني القبول بالدخول في حرب استنزاف طويلة الأمد، تدور رحاها هذه المرّة على الأراضي الأوروبية، وهو ما سيكلف الأوروبيين الكثير. ثانيا، وهو الخيار المرجّح حدوثه وبقوة خلال الأيام المقبلة، وهو فرض عقوبات اقتصادية على النظام الروسي. وهنا يبدو أن بوتين قد قام بتأمين نفسه بالاتفاق الموقع مع الصينيين، لكن السؤال إلى أي مدى يمكن صمود هذا الاتفاق؟. قد يلجأ الأميركيون والأوروبيون إلى فتح جبهات قتال أخرى على الحدود الروسية في أماكن مختلفة، مثل أفغانستان، وسيتوقف هذا على الحكّام الجدد لأفغانستان، حركة طالبان.

يشهد العالم الآن حربا باردة جديدة، لكن مركز ثقلها، هذه المرة، انتقل من برلين إلى أوكرانيا، فهل ستنجح روسيا في تفكيك أوكرانيا كما فكّكت ألمانيا من قبل، أم أن الأميركان والغربيين سينجحون في توحيد أوكرانيا وهزيمة روسيا مرة أخرى داخل أوروبا؟ هذا ما ستجيب عنه الأشهر أو السنوات المقبلة. يبدو أن الأزمة الأوكرانية تقود العالم إلى تغيرات كبرى على مستوى موازين القوى ونقطة تحول في النظام الدولي، وإعادة رسم خرائط يصعب التنبؤ بها.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.