في فلسفة "دبّر حالك"

في فلسفة "دبّر حالك"

01 ابريل 2021
+ الخط -

(1)

يُروى أن زعيما عربيا أُخبر بأن أحد وزرائه مات ولم يترك مالا لأولاده، فقال لهم: أرسلوا إليهم ما يكفيهم، يبدو أنه "ما دبّر حاله"! .. هذه "الطرفة" تكثيفٌ بليغٌ لسياسة "دبّر حالك" التي تهيمن على مجمل بلادنا العربية، فـ"تدبير الحال" هنا هو بمثابة قانون اللاقانون، حيث يستخدم المسؤول قدراته في "التدبير" لجمع ما يستطيع من مال، اغتناما لفرصة المسؤولية، وهي سياسةٌ مقرّة ومتسامحٌ معها على أعلى مستوى، بل أصبحت "ثيمة" ساخرة تؤشّر على مدى "سيولة" الدولة العربية المعاصرة، وهلامية القوانين.

(2)

إحدى أبشع مظاهر سياسة "دبّر حالك" الأكثر إيلاما، حين يتصل مسؤول كبير بوزيره شاكيا له من ثقل العبء الواقع على كاهله، فيقول له الوزير: دبّر حالك. .. وتلك ليست حكاية مفترضة، بل وقعت فعلا في الأردن، فقد قال مدير مستشفيات البشير، أكبر مستشفى حكومي في البلاد، محمود زريقات، إنه كان يشتكي لوزير الصحة الأسبق سعد جابر من الاكتظاظ وعدم توفر أسرّة كافية للمرضى في المستشفى؛ فكان الوزير يرد عليه بالقول "دبّر حالك". وقد جاء حديث زريقات تعليقا على انتشار صور متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي آنذاك تظهر اكتظاظا للمرضى داخل "طوارئ البشير": وقال حينها إن "المشكلة أن مستشفى البشير يعالج كل شيء، وليس كورونا فقط". وتابع: "من أسباب استقالتي (تراجع عنها في ما بعد)، أنني كنت أطالب بالانتقال إلى المبنى الجديد، ولكن وزير الصحة السابق سعد جابر لم يستمع إلى كلامي حول ذلك". وقال إن سبب الاكتظاظ أننا لم ننتقل إلى المبنى الجديد، مردفاً: "فوجئت بقرار الدكتور سعد جابر بتحويل مستشفى البشير، في يوم وليلة، ليكون مخصصا لمرضى كورونا"! وقد أثارت قصة "دبّر حالك" هذه في حينها مواقع التواصل الاجتماعي، ودفعت النشطاء إلى إطلاق وسم "دبر حالك" على "تويتر"، ليكون الوسم الأكثر تصدّرا في الحسابات الأردنية.

إحدى أبشع مظاهر سياسة "دبّر حالك" الأكثر إيلاما، حين يتصل مسؤول كبير بوزيره شاكيا له من ثقل العبء الواقع على كاهله، فيقول له الوزير: دبّر حالك

وفي السياق نفسه، خصص الزميل الكاتب أحمد حسن الزعبي، في برنامجه على تلفزيون العربي، "من سف بلدي"، حلقة خاصة عن سياسة "دبّر حالك" التي تنتهجها الحكومة الأردنية لحل القضايا الملحّة. وسخر من عدم اتخاذ الحكومة الإجراءات اللازمة، وعدم تحرّكها أمام انهيار قطاعات اقتصادية عديدة توفر مواطن شغل لعشرات الآلاف، إثر المشكلات التي فجّرتها جائحة كورونا.

(3)

دبّر يدبّر تدبيرا لغة: تأمّل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل. سواء أكان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه، أم في سوابقه وأسبابه، أم في لواحقه وأعقابه. ومنه "أفلا يتدبّرون القرآن" (82، النساء)، أي يتأملون معانيه ويتبصّرون ما فيه. أما "دبّر حالك" فلها شأن آخر، فهي عبارة تسمعها حين تتعقد الأمور، أو بالأحرى حين يتم تعقيد الأمور في وجهك. وفي حال استسلمت لها، وأيقنت أنه ليس ثمّة من تدبير، فستكون خسرت كثيرا. أما إذا أنعمت النظر وبدأت بتدبير الأمر، حسبما تقتضيه الحكمة، والبحث عن مخارج وخيارات، فستجد أن هناك جدوى فعلا، وأن لكل معضلة حلا، ولكل تعقيد تدبيرا.

دبّر حالك نداء أزلي، وكوني، ربما يصلح أن يكون شعاراً ذهبياً لكل الأزمان والأماكن

دبّر حالك، على مستوى الأفراد، كما هي على مستوى الدول. وفي داخل هذا التعبير يكمن عالم من التفاصيل، فهو يعني، ضمن ما يعني، أننا مُجبرون على التعامل مع عالمٍ لا يعترف إلا بالقوي، ومن يستطيع بذراعه وحكمته وعقله أن "يدبّر حاله" كما يعني، للأسف، أن ثمّة غيابا شبه كامل للتكافؤ والعدل والإنصاف، وأن النصوص والتعليمات، في كل مكان وأي مكان، لم توضع إلا لكي تُطبق على من لا يستطيع "تدبير حاله". أما من يستطيع، فتنفتح أمامه الأبواب المغلقة، سواء كنا في يوم عطلة رسمية أو ليلا أو نهارا.

دبّر حالك، في المطلق، نداء أزلي، وكوني، ربما يصلح أن يكون شعارا ذهبيا لكل الأزمان والأماكن، والظروف. وحينما يغيب تسود الدنيا ولا يتم شيء. ومن رحم المصطلح هناك اشتقاقاتٌ ذات صلة، مثل "كل شي بيدبّر"، و"ما في شي ما بيدبّر"، و"دبّرها يا زلمة"، أو "دبّرها بمعرفتك". وبقليل من التمعّن، تكتشف أنه لا يوجد ما لا يُمكن تدبيره، فكم من قضايا عصية على التدبير تم تدبيرها، بالطول أو بالعرض، و"ما بتروح إلا على اللي ما بعرف يدبّر حاله"، فدبّر حالك!