في تداعيات تمرّد طبّاخ القيصر

في تداعيات تمرّد طبّاخ القيصر

05 يوليو 2023
+ الخط -

إذا ما فكّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يلوم أحدا على ما جرى له أخيرا، فلن يجد غير فلاديمير بوتين نفسه، فهو الذي حوّل الطباخ يفغيني بريغوجين إلى قائد عسكري، وربما مخطّط استراتيجي أيضا، وأصبح واحدا من رجال الصفّ الأول الذين يعتمد عليهم، بخاصة في "فتوحاته" الخارجية، وهو الذي كانت وظيفته الأساسية أن يعدّ بنفسه الأطباق التي يفضّلها القيصر، ويتحسّس مذاقها قبل أن تقدّم له، وكانت النتيجة أن تمرّد الطباخ على سيّده بعدما داعبت عقله خيالاتٌ مريضةٌ في أن في وسعه أن يصل إلى الكرملين، ويطيح القيصر، وينصّب نفسه مكانه.

في التاريخ القريب واقعة مماثلة ارتكبها الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، عندما جعل من العريف الهارب من الجيش حسين كامل واحدا من مقرّبيه وزوجه ابنته، ثم عيّنه وزيرا للدفاع ومشرفا على الصناعات العسكرية، وأعطاه رتبة فريق، وألحق بسلطته وزاراتٍ عدّة. وإذ انفتحت أمام كامل أبواب المجد تصوّر أن الدنيا دانت له إلى الأبد، وأنها خطوة واحدة فقط، ويحصل على لقب السيد الرئيس بعد إطاحته عمّه، وكان أن طار إلى الأردن ليعلن من هناك "بيانه الأول". صبر صدّام على تمرد "العريف" الهارب شهورا قبل أن يتمكّن، وبخطّة ذكية، من إعادته الى البلاد، إلا أنه لم يمهله بعد وصوله سوى ساعات معدودة، حتى كان "شباب العشيرة" قد أجهزوا عليه في منزله، وقتلوه شرّ قتلة.

ربما تذكّر الرئيس بوتين ما فعله صدّام حسين مع "العريف" المتمرّد، وقد يكون قد طلب من مساعديه تزويده بكل التفاصيل، تمهيدا لوضع خطته الخاصة به، والتي تجعل بريغوجين نسيا منسيّا، استنادا إلى خبرته العريضة في جهاز المخابرات (كي جي بي)، ولكي لا تبقى "الشوكة في الحلق" طويلا.

ولكن هل يضمن مقتل بريغوجين، إن تم، أو حتى قبوله بوضع "اللاجئ الدائم" عند رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو، حليف الرئيس بوتين، إسدال الستار على واقعة التمرد من دون توقّع تداعياتٍ قد لا تظهر في المدى القريب، وخصوصا أن بقاء حرب أوكرانيا من دون حسم يظل يأكل من جرف الرئيس بوتين على المستوى الداخلي، وقد شرعت قياداتٌ عسكريةٌ عليا في إظهار نوع من الامتعاض والغضب مما يجري، كما أن شرائح مدنية بدأت تشعُر بثقل الحرب عليها بعدما طالت أكثر مما قدّر لها، ومن دون أن تبدو في الأفق دلائل تشير إلى قرب نهايتها.

بقاء حرب أوكرانيا من دون حسم يظل يأكل من جرف الرئيس بوتين على المستوى الداخلي

وبالعودة إلى تجربة صدّام حسين، معروفٌ أن قضاءه على حسين كامل حفّز عسكريين كبارا على تدبير مكائد ومؤامرات لإطاحة الرئيس الذي استطاع إجهاضها قبل أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ، كما أن ما قدّمه "العريف" الهارب من أسرار ومعلوماتٍ، بعضُها كاذبٌ وملفّق، إلى "سي آي إيه" استخدمتها واشنطن في التدليل على امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وفي إقناع أطراف ودول بالمشاركة معها في إسقاط نظام بغداد لاحقا.

قد تحدُث مثل هذه التداعيات في أعقاب تمرّد بريغوجين، وخصوصا أن للأخير صلات وطيدة بعديد من القيادات العسكرية التي تُضمر عدم الرضا عن سياسات بوتين، وقد جرى بالفعل اعتقال بعضها، ومن بينهم سيرغي سوروفيكين الموصوف بأنه عضو سرّي في مليشيا فاغنر، وتردّد أنه كان على علم بنية بريغوجين التمرّد على سيّده.

وفي إطار خدمات "فاغنر" خارج روسيا، قد تحدُث تداعياتٌ من "قماشة" مختلفة، خصوصا في البلدان التي مارست فيها "فاغنر" نوعا من التغلغل لخدمة أغراض نظام بوتين، مثل سورية، وليبيا، والسودان، وأفريقيا. ومن الطبيعي أن تسود الحيرة الأوساط الحاكمة في هذه البلدان، بعد أن أصبح استمرار وجود رجال "فاغنر" فيها مشكوكا فيه، إذ قد تتعرّض المناطق التي كانت تحت حمايتهم إلى الانكشاف، وربما إلى حالة من الفوضى تلحق الضرر بالمناطق نفسها، وقد تتسبّب في ظهور عقد "جيوسياسية" تخلق مآزق صعبة لتلك البلدان، وخصوصا أن لفاغنر فيها، إضافة إلى خدماتها العسكرية، نشاطات اقتصادية وتجارية ذات تأثير مباشر على المستفيدين منها، وهذا كله قد ينشئ مأزقا للنظام الروسي نفسه الذي اعترف بتبعيّة "فاغنر" له وتمويلها منه، وإن حاول أن ينأى بنظامه عما ارتكبته هنا وهناك من أفعالٍ يرقى بعضها إلى أن يكون "جرائم حرب" وجرائم ضد الإنسانية.

يبقى سؤال في انتظار الإجابة: ما مقدار ما يمكن أن تناله التداعيات المحتملة من نظام الرئيس بوتين، ومن مكانته القيادية في داخل بلاده، ومن صورة "روسيا العظمى" التي تطوف في عقله؟

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"