في الحديقة العامة

في الحديقة العامة

18 أكتوبر 2021

(سعاد العطار)

+ الخط -

امرأة خمسينية تجلس على المقعد الخشبي المقابل، تبدو غائبةً عن كل ما حولها. لم تتنبه، في البدء، إلى الصديقتين الفضوليتين اللتين تقاربانها في العمر، المنهمكتين في مراقبتها، وقد انخرطتا، قبل دقائق، في جلسة نميمة متعدّدة الاتجاهات، طاولت كثيرين من معارفهما، فيما تلتهمان بذور البطيخ وتقهقهان بين حين وآخر. لم يسلم منهما أحد من زملاء العمل أو الأصدقاء أو الجيران، حتى بقّال الحيّ الطيب المسكين نال نصيبه من لسانيهما السليطين، إلى أن أحسّتا بالتعب، فلاذتا بالصمت قليلاً، بهدف التقاط الأنفاس لاستكمال تسليتهما.
كان ذلك قبل أن تلتفتا إلى المرأة الوحيدة التي بدت لهما حزينة. همست الأولى: مسكينة، لا بد أن حياتها حافلة بالمآسي، وإلا فما الذي يدفعها إلى الجلوس وحيدةً في حديقة عامة بدون صديقةٍ أو أبناء أو أحفاد يؤنسون وحدتها. لعلها أرملة فقدت زوجها أخيراً، وها هي تستعيد ذكرياتها معه، تتذكّر لقاءهما الأول، حين وقعا في الغرام من النظرة الأولى، وحين كتب لها على ورقة معطرة أول رسالة حبٍّ جعلت قلبها يخفق فرحاً، وكيف طارت إلى لقائه، منتشيةً بالحب الذي طرق قلبها للمرة الأولى، وخجلها وتلعثمها حين أحضر أمه إلى بيت أهلها، فتعالت أصوات الزغاريد حين وافق والدها على الحبيب الذي أصبح زوجها. مؤكّد أنها تستحضر حفل زفافها الذي أثار غيرة صبايا الحيّ، حين بدت في أجمل حالاتها عروساً سعيدة، تتأهب لحياةٍ حلوةٍ حافلةٍ بالحب والفرح مع شريكٍ اختاره قلبها. لعلها أنجبت له ولداً وبنتاً، كبرا وتعلما في أحسن الجامعات. الولد الذي لا يقل وسامةً عن أبيه حصل على فرصة عمل في دبي براتب كبير مع بدل إقامة وسيارة، وهو يفكّر في التقدم لخطبة زميلة دراسةٍ ربطته به قصة حبٍّ جميلة، لكنه قرّر تأجيل الخطبة بسبب وفاة والده، إذ ليس من اللائق أن يقيم حفل زفاف قبل مرور عام على الوفاة. تزوّجت البنت بعد تخرّجها من الجامعة، وهاجرت مع عريسها إلى كندا، وهي تشعر بالحنين إلى عمّان. زارتها الأم حين حان موعد ولادتها. لم يكن الحصول على تأشيرة أمراً يسيراً، تعين عليها تقديم وثائق كثيرة. وعلى الرغم من انبهارها بجمال الطبيعة هناك، لم تحتمل البقاء طويلاً بسبب برودة الطقس.
ردّت الثانية بلهجة متعاطفة: ربما كانت مطلّقة تخلّى عنها زوجها من أجل امرأة أصغر سناً، بعد أن سلبها تحويشة عمرها، ولم يعترف أمام القاضي في المحكمة الشرعية بأنها ساهمت في شراء بيت الزوجية من ميراثها، وأنها كانت تدفع كل راتبها في مصاريف البيت. لكن المحكمة لا تعترف إلا بالأوراق الرسمية، لذلك "خرجت من المولد بلا حمّص". حتى الأولاد، اتضح أنهم أوغاد، مثل أبيهم الذي تمكّن من رشوتهم، كي يشهدوا على أن التقصير كان من والدتهم.
صمتت الصديقتان، وأخذتا ترقبان المرأة وهي تخرج قلماً وقصاصة ورق، وتنهمك في كتابة شيء ما. قالت الأولى بلهجة واثقة: المسكينة تكتب كلمة رثاء مؤثّرة تعدّد فيها مناقب زوجها الراحل، وتعبر عن مدى حزنها لفراقه... ردّت الثانية: بل تكتب رسالة عتاب طويلة إلى أولادها العاقين الذين تنكّروا لها، وتخلّوا عنها في خريف عمرها.
انتهت المرأة التي تجلس وحيدة من كتابة قائمة احتياجات البيت: لحوم، خضروات، فواكه، أرز، سكّر، برغل، عدس، شاي، قهوة، مواد تنظيف. راجعت القائمة بدقة، قبل أن يطلّ زوجها مبتسماً. كان قد أنهى صلاته في المسجد القريب، فيما انتظرته في الحديقة. اعتذر لها عن التأخير، شبكت يدها في ذراعه، ومضيا في سبيلهما، وهو يستمع إليها تسرُد عليه ضاحكةً حكاية المرأتين غريبتي الأطوار في المقعد المقابل، ذواتَي الأصوات المرتفعة المزعجة والخيال العجيب والوحشة القاتلة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.