غزوة بوتين ما بعد غزوة مانهاتن

غزوة بوتين ما بعد غزوة مانهاتن

06 ابريل 2022
+ الخط -

يَعرض فيلم "لعبة الجوع" (The Hunger Game) التنافسَ بين القوة المستقرة وصعودِ البدائل غير المتوقعة، بين قوّة العنف المنظم ورفضِه. هو صراع بين الثبات وتغيير شروط اللعب... يمثل الفيلم المأخوذ من سلسلة روايات "مباريات الجوع"، المنشورةِ في العشرية الأولى من القرن الراهن، أحد مظاهر قلق الإنسان من عالم أحادي القطبية، أو القلقِ في مجتمعاتٍ مسيطر عليها عبر قواعد الرقابة العالية والتوجيه المباشر وغير المباشر. السيطرةُ المحكمة والرقابة العالمية كانتا نقطتي الفصلِ في رؤية الكاتبة سوزان كولنز.

هذان العنصران ليسا سمةَ عالم الاستبداد التقليدي المعهود في بلدان المعسكر الشرقي والعالم الثالث فحسب، بل يمكن اكتشافهما أيضاً في الغرب نفسه، حيث الديمقراطية. هناك تحكّمٌ من نوع مختلف، لا يشبه طريقةَ ستالين، لأنّه ليس استبداداً بالمعنى التقليدي، هو سيطرةٌ محكمةٌ على الاتجاه العام للمجتمعات.

مثلاً، كاميراتُ المراقبة في كلّ مكان، كما هي لحماية سلامة الأفراد ومعرفةِ المعتدين عليهم، هي أيضاً أدواتٌ لتكريس السيطرة. والمثال الآخر هو النظامُ المالي المؤدّي إلى تكريس الغِنى بيد نسبة قليلة من الناس، مع الاحتفاظ بمستوى من عدم الجوع لدى الغالبية. تلك النسبة تلعب دورا مهما في تكريس قوتها ونفوذها عبر شبكةٍ واسعةٍ ومعقدة من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية... هذان المثالان، المراقبةُ المرئية والسيطرةُ المالية، استطاعت "لعبة الجوع" تسليطَ الضوءِ عليهما بعمق، لكنها وضعتْ أمامها تحدّيَ التحوّلاتِ والأسئلةَ الجديدة ومحاولاتِ جيل آخر.

العملُ الروائي والسينمائي هذا ليس مفصولاً عن سياقه، هو امتداد لمجموعة من الأعمال المتواصلة منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، وأخذت بالظهور فعلاً مع انطلاق سلسلة أفلام الماتريكس نهايةَ القرن الماضي. الرغبةُ الجامحة في التغلب على السطوة، بعدما انهارت الدكتاتورية في معقلها الحديث المعسكر الشيوعي. هي تحوّل ناشئ ظهر في السرد المكتوب والمرئي بالتزامن مع ثورة الاتصالات.

نزعة البشرية نحو التسلط مستمرةٌ، رغم محاولات التحكم بها بواسطة أخلاقياتِ الحضارةِ المعاصرة القائمةِ على حقوق الإنسان

في جانب تبدو اللحظة والتحولاتُ في تاريخ الإنسان الحديث متشابهةً. النزعة البشرية نحو التسلط مستمرةٌ، رغم محاولات التحكم بها بواسطة أخلاقياتِ الحضارةِ المعاصرة القائمةِ على حقوق الإنسان. هذا التشابه لا يُخفي اختلافَ أنّ التحولات مع بداية القرن الحالي لا تشبه نزعة ما بعد انهيار المنافس الشرقي. لم يعد لنهاية التاريخ وصراع الحضارات وغيرِهما من أفكار تسعينيات القرن العشرين حضور صريح في تصورات كثيرين من نخب الإنسان المعاصر، رغم أن القرن بدأ بكارثة تمثلتْ في تفجيرات سبتمبر عام 2001 وما تلاها.على العكس، كانت هناك أسئلةٌ لم تَمنع من طرحها حتى لحظةُ الإرهابِ الكبرى عندما استهدف تنظيمُ القاعدة البرجين في مانهاتن. كانت الأمور تسير برفق، بعيدا عن تأسيسات المنظرينَ الأميركيين لما بعد العالم ثنائي القطبية، وبعيداً أيضاً عن استثمار الحرب ضد الإرهاب لتسويق عقيدة مصطنعة.

وبينما تستمر النزعةُ التدميرية للإنسان متمثلةً ببحثه الدؤوبِ عن فرص التوسّع والتفوّق بالقوة الموجودة منذ بدايات الحضارة، بدت الأمورُ في بداية قرننا الحالي مختلفةً عن بداية القرن العشرين، بدايةٌ يختصرها الفيلسوفُ وعالم الاجتماع، أشعيا برلين، في كتاب "خمسة مقالات عن الحرية" بقوله: "تحول تيارا الفردانيةِ الإنسانية والقومية الرومانسية، التحرريان والصاعدان بقوة في القرن التاسع عشر، إلى شكلينِ مغاليينِ ومتطرّفينِ ومشوَّهينِ في القرن العشرين: الشيوعية والفاشية. الأولى كانت الوريثةَ المزيّفة للدولة الليبرالية؛ والثانية كانت ذروةَ إفلاس الوطنية الغامضة خلال القرن التاسع عشر". غير أنّ واحداً من الشكلين، وهو الشيوعية، وصل إلى الحكم رافضاً مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى. كان رفضاً ذا تأثيرٍ صريح، عندما قرّر لينين ورفاقه الانسحاب بعيداً عنها، والانشغال بلملمة البيت الداخلي لروسيا، إلّا أنّ رفضَ الحرب لم يكن عميقاً بما يكفي، بل انطوى على ضدّه، على التأسيسِ لحربٍ بديلة، تعتمد الغزوَ للجوار على أساس أيديولوجي، فجاء تقسيم بولندا مع هتلر تكليلاً لتلك النزعة الستالينية المتزاوجةِ مع الروح البلشفية المسحورة بعقيدة نشر الثورة. وهنا تكمن نقطةُ الاختلافِ بين الوقت الراهن وعقدي الشيوعية والفاشية المؤسّسين لصعود العنف في حربٍ ساخنةٍ مدمرةٍ وأخرى باردةٍ مؤلمة. العهد الراهن لا يمتلك مرجعيات فكريةً صريحة، ولا مفكّرين مؤثرين على سياق عالمي، ولا ثوراتٍ ذاتَ تأثير بالغ في التفكير البشري.

وهناك نقطةُ تشابهِ مهمةٌ؛ نحن نعيش تحولاتٍ رافضةً للحرب، تمثلت جلياً في مواجهة طموحات الرئيس الروسي بوتين العنيفة. لم تظهر هذه الرغبةُ بسرعة خلال العقدين الماضيين، لكنّ مظاهرَها لاحت في احتجاجات مليونية شهدتها لندن رفضاً لمشاركة بريطانيا في حرب العراق عام 2003، غير أنّ تأثيرات ذلك بقيت محدودة مع التعقيد الذي شهده الملف العراقي.

رفْضُ غزوِ بوتين أوكرانيا أكثرُ صراحةً مما كان معهوداً منذ حرب فيتنام. انطلقَ من عقيدة اللاحرب

رفْضُ غزوِ بوتين أوكرانيا أكثرُ صراحةً مما كان معهوداً منذ حرب فيتنام. انطلقَ من عقيدة اللاحرب، وهو، في الوقت نفسه، رفْضُ روحِ الهيمنة الأحادية. هي لحظةٌ أظهرت ردّ فعلٍ أخلاقيّا مباشرا. وخلف رد الفعل المباشر أسئلةٌ قِيَمية يمكن أن تتطوّر وتتفاعل في اتجاهات أخرى، لتصبح ردودَ فعل غيرَ مباشرة أو تصبح أفعالاً، يمكن أن تتّجه لترفض من يستثمرون الآن حالة النقمة ضد غزوة بوتين، فحلف الناتو هو الآخر ليس بريئاً من غزوات مدمّرة، بل إنّه مساهم في حرب أوكرانيا عبر تكثيف جهود وضع كييف، طعماً لنزعات سيد الكرملين القيصرية. وهو ليس بريئاً عندما توسّع شرقاً إلى درجة استفزاز الخصم القديم، موسكو. لكن يبقى بوتين المسؤولَ المباشر. ورفضُ فعله يمثل رد الفعل الأخلاقي المباشر.

هناك أكثر من دافع لصناعة أجواء الحرب الكبيرة هذه؛ ثنائيةُ شرق وغرب، بحثُ الحضارة الغربية عما يوحّدُها بعدما تعرّضت لضرر بالغ في العقد الأخير، محاولةُ إعادةِ خلق الاقتصاد المتضرّر جدا بفعل إجراءات مواجهة الجائحة، وفي المقابل طموحاتُ بوتين ورغبتُه في مجد عالمي عبر استعادة ماضي الغزو وضم الأقاليم المجاورة بالقوة... وغيرُها، هي عواملُ أو دوافعُ عديدة. العوامل لا تخفي وجودَ دافع مضادّ، هو الخوف من الحرب والبحثُ عن منطق جديد للحياة بعيداً عن عبث السياسة الدولية واقتصادِها العالمي. صعودُ دونالد ترامب وفشلُه في الانتخابات، يمثلان أهمَ مظاهرِ الصراع بين رغبتين عالميتين، العلاقةُ بينهما معقدة وتأثيرُهما أيضاً متداخل.

قد يُختصر الصراعُ بنزاع اليمين الشعبوي مع خصومه التقليديين. هو اختصار يصلح عنواناً يخفي في طياته أسباباً أبعد وأكثر تعقيداً. هناك أجيالٌ جديدةٌ لم تأتِ بها اتجاهاتٌ فكرية، بل تبحث عن طرقها وهويتها وأفكارها ضمن عالمٍ قاسٍ بتعقيده، وهو العالم نفسه الذي قَدّم للأجيال الجديدة طرقَ تواصل لم تكن موجودة في ما سبق.

غزوُ بوتين هو آخر حلقة في سلسلة الأحداث الكبرى المؤسّسة لمرحلة ما بعد هجمات سبتمبر التي سمّتها شبكة القاعدة "غزوة مانهاتن"

ربما شهدت البشريةُ وضعاً مماثلاً بعد الحرب العالمية مع صعود موجة الهيبيز وسواها من تيارات ستينيات القرن السابق وسبعينياته، وأدّت إلى صعود يسار ما بعد الشيوعية، غير أنّ ما يجري في اللحظة الراهنة مختلفٌ تماماً عن كلّ ما سبقه. يوجد عدمُ تنظيم فكري صريح في موازاة وجود استعدادٍ للاندفاع بعيداً على أي حال، إذ لا أيديولوجيات كبرى تحرّك الغرب والعالم. الشعبوية الصاعدة في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وجنوب أوروبا وبعض بلدان العالم الثالث هي أحد تمظهرات الزمن الحالي.

غزوُ بوتين هو آخر حلقة في سلسلة الأحداث الكبرى المؤسّسة لمرحلة ما بعد هجمات سبتمبر التي سمّتها شبكة القاعدة "غزوة مانهاتن". العقدان الماضيان شهدا صراعاً بين تداعيات الهجمات الإرهابية عام 2001 من جانب واستحقاقات تواجه العلاقة بين النظم السياسية الغربية ومجتمعاتها من جانب آخر. تبدو التفاعلات الواسعة أخلاقية في جانب، متمثلةً في رفض غزو بلدٍ لأسباب طغيانية أو تاريخية أو اقتصادية. وهو رفضٌ يطرح أسئلة عميقة بشأن السياسات الغربية نفسها، خصوصاً مع تعرّض تصريحاتٍ عنصريةٍ لإعلاميين في الصحافة الغربية إلى انتقادات واسعة حين أجريت مقارنة بين أوكرانيا بعيون شعبها الزرقاء وبلدان من الشرق الأوسط. في النهاية، حين يُرفض غزوٌ سينسحب هذا على أحداثٍ مشابهة حدثت أو ستحدُث. فضلاً عن هذا، طريقةُ ردة الفعل تجاه كلّ روسيا، وليس روسيا النظام السياسي فحسب، ستتحوّل، في وقت ما، إلى سبب عميق يبلور أسئلة قد لا يكون الغرب نفسه مستعدّاً لها.

وإلى جانب ردّ الفعل الأخلاقي على غزوِ بوتين وشعبويةِ ترامب وسعارِ الوباء الذي أوجد نوعاً من التمييز ضد المصابين بالفيروس في الشهور الأولى من ظهوره، يوجد جانبٌ آخر هو سؤال الحرية. فأيّاً كانت مآلات العلاقة بين الغرب وروسيا وعواملها الآن، تبقى اللحظة جزءاً من ثلاثة متغيرات أساسية أحدثت الصدمة: صعود ترامب وسؤال الحرية في سياسات مواجهة الجائحة وغزو بوتين أوكرانيا وما تلاه من ردود فعل.

عمار السواد
عمار السواد
عمار السواد
إعلامي وكاتب عراقي، يعمل في التلفزيون العربي، ويقيم في لندن
عمار السواد