على سبيل التخلّي!

على سبيل التخلّي!

24 فبراير 2022

(حامد ندى)

+ الخط -

هل يمكننا التجرّد من كل ما ومَن حولنا ونبقى نحن أنفسنا؟ هل نستطيع الاستغناء عن كل شيء إلا ذواتنا الحرّة وحدها في هذا العالم؟ هل ننجح لو أردنا أن نكتفي بالقليل جداً من هذا العالم ومن هؤلاء البشر، ونمضي في بقية الحياة سالمين غانمين؟ منذ عامين تقريباً، أنا منخرطة في تجربة حياتية لذيذة، على الرغم من أنها ليست جديدة تماماً، فقد سبقتها محاولاتٌ محدودةٌ وغير مقصودة. حتى هذه المرّة، لم أكن أقصد الانخراط فيها، بل وربما لم أنتبه إلى أنني أعيشها إلا أخيراً، بعد أن شعرت أنني قطعت فيها شوطاً على سبيل النجاح الذاتي غير المسبوق.

أحاول قدر الإمكان أن أتخفّف من كل شيء حولي. أن أتخلّى عن كل ما يعوق روحي عن أن تكون خفيفةً وحيدةً حرةً وقادرةً على تجاوز أي مكان أو زمان أو مرحلة ما من دون أن يعوقها عائقٌ في سبيل أن أصل، في النهاية، إلى مرحلة أكتفي فيها بذاتي وحدها، وإن لفترة قليلةٍ لا بد أن أشعر خلالها أنني وحدي في هذا الكون الواسع.

بدأت الحكاية، كما أحاول أن أتذكّرها، وأرصدها الآن، وأنا بصدد الكتابة عنها للاحتفاظ بها على الأقل، مع فترة الحظر الكلي بُعَيْد انتشار جائحة كورونا. كان الوقت كبيراً جداً، وكنت لأول مرة أعيشه في منزلنا بهذا الشكل اللانهائي، وبلا ضوابط في النوم أو اليقظة أو الخروج للعمل، فلم يسبق أن عشتُ فراغاً كبيراً بهذا الحجم، رغم توقي إليه في ظل زحمة العمل وتعدّد المهمات المطلوبة مني هنا وهناك.

تلفتُّ حولي في بدايات ذلك الفراغ الكبير، لأجدني غارقةً في تفاصيل ما أملك من دون شعور حقيقي وواضح بملكيته. ملابس وأحذية لم أعد أرتديها منذ سنوات، بل لعل الكثير منها لم أرتده على الاطلاق، لأسبابٍ لم يعد يهمّني تذكّرها الآن. لكنها بقيت تحتل مساحة كبيرة في خزانة ملابسي، فتصيبني بالاختناق، كلما حاولت البحث عن قطعة ملابس مفضلة. كانت تلك الملابس أولى ضحاياي في رحلة التخلّي، قبل أن أجد الأمر مريحاً جداً ومسلّياً، كذلك فإنه سيوفر لي مساحاتٍ كنت أحتاج إليها في المكان الذي أعيش فيه. أريد أن أعيش وحدي في المساحة المخصصة لي في هذا المكان قدر استطاعتي.

كنت أضع التذكارات الصغيرة التي كنت أستخرجها من كل الأمكنة في غرفتي أمامي، فأحاول عدم الغوص في ذكرياتها ومناسباتها والأشخاص الذين أهدوني إياها، ولا المناسبات التي أحضرتها فيها، حتى وصل بي الأمر إلى أن أغمض عينيّ قليلاً، لأضع ما أجده منها في صناديق خصّصتها للتوزيع على من يريدها أو التخلص منها بطرق أخرى. لكن مرحلة التعامل مع الكتب كانت هي الأصعب مني، فلم تنجح مهمتي فيها تماماً، وإن كانت النتيجة فراغ بعض الأرفف المزدحمة من المكتبة.

ويبدو أن نجاحي في التعامل مع الأشياء المادية أغراني لولوج عالم آخر من البشر والعلاقات والذكريات، فتقدّمت نحوه بشجاعة مفاجئة.

نعم، أريد أن أكتفي بأقل المناسبات والعلاقات في حياتي، بعد أن نجحت في التخلّي عن كثير من حاجياتي وملابسي وأوراقي ولوحاتي وصوري وكتبي. ما زلت في الرحلة التي يبدو أنني سأنجح فيها جزئياً، وإنْ واجهت بعض هذه الأشياء والعلاقات تقاوم ما أنويه بشدّة، محتمية بجدار صلد أسمه الذكريات. لكن ما اكتشفته الآن، أن مهمتي مع البشر كانت هي الأسهل، كما يبدو، لولا بعض حنين يجتاحني، وأنا وسط مهمة التخلّي، ليحاول أن يثنيني عمّا أود المواصلة فيه. لذلك، سأؤجل الكتابة عن مهمتي في التخلي عن كثيرين ممن حولي، حتى أتيقن تماماً أن المهمة التي ما زلت أعيشها قد انتهت على خير، وأن هذا الخير هو كل ما أتوق إليه، في نهاية هذه الرحلة في حياتي!

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.