عجز النخب السياسية المصرية والتغيير المطلوب

عجز النخب السياسية المصرية والتغيير المطلوب

09 ديسمبر 2021

(محمد عمران)

+ الخط -

من أهم أسباب فشل ثورة يناير (25 كانون الثاني 2011) في مصر عجز شركائها عن الاتفاق على أسلوب لانتقال السلطة من نظام حسني مبارك إلى ممثلي الثورة والشعب، فلم يكن أمامهم سوى اختيارين: بناء تحالف متماسك يمثلهم ويتفاوض باسم الثورة والشعب مع المجلس العسكري، ويتولى الحكم من بعده. الاتفاق على التنافس فيما بينهم في انتخابات حرّة ونزيهة كالتي تم عقدها بناء على استفتاء مارس/ آذار 2011، والرضا بنتائج تلك الانتخابات، والصبر عليها حتى تفرز الدورات الانتخابية المتتابعة نخباً جديدة.

والواضح أنّ النخب السياسية المصرية التي أفرزتها عقود التجريف السياسي فشلت في الاتفاق على أيٍّ من المخرجين السابقين، فبعد إزاحة مبارك عن الحكم وتولّي المجلس العسكري، لم تتمكّن القوى التي دعمت الثورة من بناء تحالفٍ يجمعها، بل انقسمت تلك القوى أفقياً، كما ظهر في حالة ظهور أحزاب دينية ويسارية وليبرالية جديدة، ورأسياً، كما حدث في انفصال بعض الشباب والرموز، ومحاولتهم بناء أحزاب وائتلافات جديدة تتحدّث باسمهم.

لم تتمكّن القوى التي دعمت الثورة من بناء تحالفٍ يجمعها

وما زالت تلك القوى تتلاوم فيما بينها بشأن أسباب الانقسام، فبعضها يلقي اللوم في الفرقة على رعونة الشباب، أو تكلّس الشيوخ، أو على أنّ الأحزاب القائمة هي صنيعة السلطة أو ضعيفة التمثيل أو لا تمارس الديمقراطية داخلياً، أو على أنّ بعض القوى الدينية متشدّدة أيديولوجياً وتعاني من مشكلات فكرية وتنظيمية عديدة. ويرى آخرون، كروبرت سبرنغبورغ، في كتابه "مصر" (2018) أنّ خصائص الشعب المصري الديموغرافية وبنية الاقتصاد السياسي المصري لم تكن لتسمح بنجاح التحوّل الديمقراطي، بسبب فقر المواطنين وتراجع الطبقة الوسطى واعتماد المصريين المبالغ فيه على الحكومة اقتصادياً وتراجع التعليم. هذا بالإضافة إلى قبضة الأمن الحديدية على مختلف القوى السياسية واختراقها وعدم السماح بصعود نخبٍ سياسيةٍ أو اقتصادية مستقلة، وأدّى هذا كله إلى تدمير قدرة المجتمع المصري على إفراز نخبٍ سياسيةٍ قويةٍ ومستقلة.

ولهذا انقسمت القوى السياسية وعجزت عن الوحدة قبل إزاحة مبارك عن السلطة، وتركت الميدان فور إزاحته من دون اتفاقٍ على جهةٍ تمثلها أو مبادئ حاكمة للفترة الانتقالية، وراحت كلّ جماعةٍ منها أو تكتّل صغير تتحدّث مع المجلس العسكري بشكل منفرد، وربما سرّي، وترك الميدان بلا رقيب، ولم يتم التوصل إلى أيّ توافق حول إدارة الميدان، لناحية من يتظاهر فيه والشعارات التي تُرفع، بل تحوّل الميدان نفسه خلال فترة قصيرة لمساحة تنافس بين القوى السياسية تسعى بعضها إلى احتكاره والتحدّث باسمه وحدها، إلى أن وصل الحال إلى تصادم أنصارهم العنيف داخله أمام أعين المواطنين ووسائل الإعلام.

تبدو الثورة ومحاولات التغيير المصرية أمام معضلةٍ حقيقية، تتمثل في ضعف مختلف القوى السياسية التي تمثلها، وهو ضعفٌ يبدو بنيوياً راسخاً أكثر منه ضعفاً طارئاً أو سطحياً

ولمّا دعا المجلس العسكري إلى الاستفتاء على تعديل الدستور وعقد الانتخابات خلال ستة أشهر أسلوباً للفصل بين القوى السياسية، انقسم شركاء يناير حول مبدأ الانتخابات نفسه، ورأى بعضهم أنّ الحلّ يكمن في فترة انتقالية يعاد فيها ترتيب قواعد اللعبة السياسية، ويتم فيها التوافق على خصائص النظام السياسي أولاً، والإعداد لانتخابات نزيهة، وهي فكرةٌ وجيهة من دون شك، لكنّ هؤلاء نسوا أنّ توافق القوى السياسية أمرٌ مستحيلٌ في غياب البنى السياسية والاقتصادية والثقافية التي تسمح بذلك التوافق، وبسبب ضعف مختلف القوى السياسية، وعجز أيٍّ منها عن فرض إرادته، وبسبب الانقسام والفردية المهيمنين على مختلف القوى السياسية، خصوصاً الليبرالية واليسارية منها. وحتى بعد إجراء الاستفتاء على الدستور وعقد الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، فضّلت شخصياتٌ وقوى سياسيةٌ مقاطعة تلك الإجراءات ورفض نتائجها والنخب السياسية التي أفرزتها، والسعي لدى الجيش والتحالف مع فلول نظام مبارك إلى قلب الطاولة، والدعوة إلى نظام جديد يتم بناؤه بالاتفاق معها، وهو ما حدث في تحالف جبهة الإنقاذ، والتي ضمّت بعض أبرز القيادات والقوى المعارضة المحسوبة على التيارات اليسارية والليبرالية، وتحالفت بشكل واعٍ مع القوات المسلحة، وبعض رموز نظام مبارك للانقلاب على نتائج الانتخابات التي تم عقدها. ودعمت تلك القوى بعض الأحزاب السلفية، نوعاً من النكاية في جماعة الإخوان المسلمين. هذا بالإضافة إلى ارتباط بعض القيادات والجماعات السابقة القوي بالمؤسّسات الأمنية المصرية واختراق الأمن لها منذ البداية.

وبعد الانقلاب، ظلّ ضعف القوى السياسية المصرية مهيمناً، فلم تتمكّن جبهة الإنقاذ من الحفاظ على تماسكها وانهارت سريعاً، ولم يتمكّن ممثلوها الذي شاركوا في السلطة التي أفرزها الانقلاب من فرض إرادتهم، ورفع بعضهم شعار العداء لـ "الإخوان" لتبرير مختلف مواقفهم. كما لم يتمكّن التحالف الذي تشكّل للدفاع عن الشرعية والمطالبة بعودة الرئيس محمد مرسي إلى الحكم، والدفاع عن حقوق المعتقلين، من تحقيق أهدافه، ما قد يعود إلى الضربات الموجعة التي تلقاها هذا التحالف، بسبب الملاحقة الأمنية العنيفة لأعضائه، أو للدعم الإقليمي والدولي الكبير الذي حصل عليه النظام الجديد، وبسبب أخطاء ارتكبها هذا التحالف، في الشعارات التي رفعها، والتي يبدو أنّها مالت إلى رفع السقف والافتقار إلى المرونة بمرور الوقت، فتحوّل رفع سقف المطالب إلى نوع من التعويض عن العجز عن تحقيقها. كما تعالت إلى السطح، بمرور الوقت، خلافاتٌ كثيرةٌ عصفت بتماسك ذلك التحالف، ومختلف محاولات المعارضة إلى الوحدة وبناء تمثيل متماسك وفعال.

مصر في حاجةٍ لما هو أكثر من ثورةٍ لن تجد من يستطيع قيادتها، وأكثر من شراكة تبدو مستحيلةً مع النظام

وهكذا تبدو الثورة ومحاولات التغيير المصرية أمام معضلةٍ حقيقية، تتمثل في ضعف مختلف القوى السياسية التي تمثلها، وهو ضعفٌ يبدو بنيوياً راسخاً أكثر منه ضعفاً طارئاً أو سطحياً. باختصار، نجحت بنية نظام 1952 العسكري الحاكم لمصر في إضعاف الدولة والمجتمع معها، كما يتحدّث روبرت سبرنغبورغ في كتابه المهم، ولم تعد في مصر نخب اقتصادية أو سياسية أو اقتصادية مستقلة ومؤهلة مادياً ومعنوياً. ولا يعني هذا في أيّ حال أنّ النظام العسكري تمكّن من بناء نخب حاكمة مؤهلة أو ناجحة، فما زالت مصر تعاني من "تراجع مستمر يصعب إيقافه" كما يحذر سبرنغبورغ. تراجع انعكس على تردّي مختلف الخدمات التي تقدّمها الدولة المصرية لمواطنيها، والعجز عن تحقيق تنميةٍ اقتصاديةٍ حقيقية، وتراجع رأس المال البشري كما يظهر في تراجع مستوى التعليم والجامعات وتآكل الطبقة الوسطى والهجرة المستمرّة لأبرز العقول والخبرات المصرية.

وهذا يعني أنّ مصر باتت في حاجةٍ لما هو أكثر من ثورةٍ لن تجد من يستطيع قيادتها، وأكثر من شراكة تبدو مستحيلةً مع النظام العسكري الحاكم الذي يعجز، بشكل مستمر، عن تخطّي مصالحه الضيقة وبناء شراكة حقيقية مع المجتمع المصري. مصر في حاجةٍ عاجلةٍ لمؤتمر وطني جامع وتأسيسي، لإعادة التفكير في سبل إعادة بناء الدولة والمجتمع معاً. وهو مؤتمر يبدو كذلك مستحيلاً في ظلّ الظروف القائمة، وهو ما يعني أنّ مشاريع الإصلاح الحقيقي مؤجلة ومعطلة حتى إشعار آخر يرتبط، في الغالب، بانتشار وعي جديد في أوساط غالبية المصريين يقلب المعادلة السياسية. وعي بأنّ البلاد تسير في الاتجاه الخطأ، وأن لا بديل سوى إعادة بناء نظام 1952 بشكل كامل، والحاجة لأن يأخذ المجتمع ذاتُه زمام المبادرة، ويفرز قيادات جديدة تتفق في ما بينها على طبيعة النظام الجديد الذي تريد أن يحكمها، ويلتفّ حولها تلك القيادات وبرنامجها، حتى يحدث الانتقال السياسي المطلوب.