صدمة أبو يائير

صدمة أبو يائير

22 مايو 2021
+ الخط -

أنهى الفلسطينيون في صمودهم أخيرا، في الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة، انطلاقاً من محاولات الاحتلال تهجير عائلات فلسطينية في حي الشيخ جرّاح المقدسي، كل أوهام رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في التحوّل إلى "صانع إسرائيل الجديدة"، بعد "إسرائيل أولى" أرساها ديفيد بن غوريون. عاد نتنياهو إلى الواقع الصعب: لا يُمكن رمي الفلسطينيين في البحر، ولا تشكيل حلّ بمعزل عنهم، ولا تشتيتهم جميعاً في الكوكب. إن الفقاعة التي وضع نفسه فيها، منذ عاد إلى رئاسة الحكومة عام 2009، دفعته إلى الابتعاد بشدّة عن الميدان. ولم يكن تحوّل نتنياهو من كونه أحد أبرز من مرّوا على وحدة "ساييريت ماتكال" النخبوية في جيش الاحتلال بين 1967 و1972، إلى رجلٍ يعشق الأضواء والحياة السياسية المستلهمة من النمط الأميركي إعلامياً وتسويقياً، سوى دفعة نحو الابتعاد عن الواقع.

هذا الواقع الذي ظنّ نتنياهو أنه يُمكن تكريسه بخطواتٍ سياسيةٍ وعلاقاتٍ أممية، أثبت فشله. استمرار الميدان الفلسطيني بالبقاء على قيد الحياة لن يسمح باستقرار الحياة السياسية الإسرائيلية. هذا أمرٌ يجب أن يكون مطبوعاً على مداخل الكنيست ومقرّ رئيس الوزراء. في المقابل، لم يعد في وسع نتنياهو، ولا غيره، التحرّك في القدس المحتلة والضفة الغربية والداخل الفلسطيني، كما كان يفعل سابقاً. التفكير في إجراءات عقابية على فلسطينيي الداخل لن يكون حلاً، على الرغم من الهمجية الإسرائيلية، فكما أن جيباً صغيراً في الجنوب الفلسطيني قادر على جعل تل أبيب مدينة مهجورة، فإن الداخل الفلسطيني لن يقبل الرضوخ لكل محاولات قمعه، بعد همجية المستوطنين في اللد ويافا وعكا. الأمر غير مرتبط بأشعارٍ وتمنيات، بقدر ارتباطه بتعزيز وحدة حال فلسطينية عابرة لخلافات كثيرة بين أركانها، ظهرت في الوحدة التي جوبه بها العدوان الإسرائيلي على غزة.

قد يكون من المبكر ترجمة الوحدة العفوية إلى إطار سياسي جامع، لكن الفلسطينيين يعلمون جيداً أن خشبة الخلاص الفعلية من نير الاحتلال تبدأ من هنا: الوحدة الفلسطينية. قد يختلفون، والاختلاف ضروري، سياسياً وعقائدياً وشخصياً، لكن الإجماع على مواجهة الإسرائيلي، وتوحيد هذا الإجماع عبر تعزيز حركة تحرّر وطني، يسمح للفلسطينيين بصناعة العجائب. يكفيهم فخراً، أنه منذ بضعة أعوام كانوا يدفنون شهداءهم، من دون أن يدرك العالم ماذا يحصل شرقي المتوسط. أما اليوم، فإن القوة الفلسطينية في اختراق عالم "السوشال ميديا"، وبلغة هذا العالم، سمح بإحداث صدمة إيجابية، لن تنتهي بسهولة.

لا يُمكن للإسرائيلي الإيحاء أو القول إنه "كان يقاتل داعش" مثلاً في فلسطين المحتلة، ولا إنه "يحارب إرهابيين"، ولا "يصدّ اعتداءً من محتلين". ولّى هذا الزمن. الإسرائيلي رسّخ احتلاله، ليس لنا، نحن الذين نعرفه جيداً في هذه البقعة من العالم، بل لدى الأجيال التي لا تفهم حقيقة الوضع، وخصوصاً لدى أجيال ما بعد 1948 في فلسطين المحتلة. في إحدى المستوطنات، يجلس مستوطن، عمره مثلاً 17 عاماً، يتابع الإنترنت بكثافة، يحلم بالتحوّل إلى موسيقي أو رسام أو يرغب في التجوال في العالم. سيحلم أنه يقوم بأنشطة مشابهة لأنشطة الدول الغربية، لأنه وبحسب ما تعلّمه فإن "إسرائيل دولة غربية". فجأة، ووسط تلك الأحلام، يسمع ضجيجاً، فينظر من نافذته، ويرى اشتباكاً بين الفلسطينيين والاحتلال. يخشى على ذبول أحلامه، ويقرّر مغادرة مستوطنته سعياً لتحقيق أهدافه في العالم.

ما يحصل لهذا المستوطن يدركه جيداً أهل الأرض الذين غادروا أو استشهدوا. وإن كان هذا المستوطن يحلم بالرحيل، فإن غيره يحلم بالعودة. وفي لحظة ما، ستتصادم الرغبتان، وحينها سيدرك أبو يائير أن أوهامه التي بناها بين عامي 2009 و2021 لم تكن سوى أضغاث أحلام. لا يمكن تجاهل الحقوق الفلسطينية في أي محاولةٍ لرسم خريطة سياسية لفلسطين والشرق الأوسط. سقط "بيبي" والفراغ في القيادة الإسرائيلية سيتسع، وسيبقى الفلسطينيون.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".