سيزيف وطواحين الهراء

سيزيف وطواحين الهراء

18 يوليو 2022

(محمد إيسياخيم)

+ الخط -

في غمرة لهاثك السيزيفي في هذه الحياة، صعودا وهبوطا عبثيا عديم الجدوى، لا يُرتجى منه خلاصا، يحدُث أن يستولي عليك التعب دفعة واحدة، يداهمك على نحو مباغت، تتوقف برهة كي تلتقط أنفاسك، وتمسح العرق المتصبّب من أخمص روحك، لتكتشف أن الصخرة الملعونة التي حملتها فوق ظهرك سنوات باتت أكثر ثقلا من أي وقت مضى، وأن الوهن نال منك، وأنك لست سوى دونكيشوت حالم أحمق مثير للشفقة، ظل يحارب طواحين الهراء، متوّهما انتصارا لم يحدُث سوى في مخيلته البائسة. 
أحيانا، يجبرك رحيل عزيزٍ على وقفة كهذه، تدفعك إلى التأمل طويلا في معنى الأشياء. تخشى الاعتراف حتى لنفسك بأن كل ما سبق "باطل وقبض الريح". وترنّ في أذنك آية قرآنية سمعتها في دار عزاء، حين تنهدت سيدةٌ قائلة باستسلام مطلق "إنك ميت وهم ميتون". تُرعبك الفكرة على صحتها، ويجنح خيالك بك بعيدا، لتتصوّر مراسم موتك تقفز الدمعة من عينك، فتلجمها بصعوبة. 
تتخيّلهم يأكلون ويضحكون ويتبادلون أطراف الحديث، تتذكّر درويش حين قال "تنسى كأنك لم تكن". ينتابك الغيظ من قسوة الصورة، تحاول طردها بكل ما أوتيت من رغبةٍ في النسيان، لكنها تسيطر عليك، تواصل إلحاحها بلا رأفة. وأنت لا ترغب سوى بلحظة سلام محايدة، خالية من التوقع والترقب واللهفة والتوق والانتظار. تشتهي أن تضع رأسك جانبا أو تلقي به في أقرب حاوية قمامة، أن تجرّب الحياة بلا رأس ضاجّ بالأسئلة والاحتجاج والغضب والأسى والرعب. تعرف أن ذلك لن يحدُث، إلا في سياق نصٍّ غرائبي سوداوي، أنجزته كاتبة مجنونة، قبل أن تُقدم على الانتحار، بعد أن التهم روحها الضجر. تستبعد فكرة الانتحار، لأنك تكره الموت وتحب الحياة رغم شروطها المجحفة. 
تتحايل على ذاتك باستحضار ذكرياتٍ حلوةٍ عشتَها ذات زمن مضى. تجترّها مرارا مثل جمل وليد تاه عن أمه في صحراء ممتدّة وقد أنهكه الظمأ، غير أنها تتوارى، تتلاشى مثل كذبةٍ متقنةٍ يختفي أثرها من ذاكرتك تحت وطأة اللحظة الراهنة، الخالية من أي بارقة أمل تسند روحك المتعبة. تأوي إلى عزلتك ملاذك الآمن، ترقب حراك الآخرين عن بعد، تنأى بنفسك عن خصوماتهم الصغيرة، تركن إلى السكون، تسلم نفسك طائعا إلى الحزن بعد طول مقاومة، تتيقن أن السعادة الطارئة وهمٌ مصيره إلى زوال. تلقي صخرة سيزيف بعيدا، ترقبها تتدحرج إلى هاوية سحيقة بلا قرار، محدثة ضججيا هائلا، يخيّل إليك أنه يهزّ الكون. تضحك من فرط الأسى، غير أن إحساسا هائلا بالسكينة يحلّ على حواسّك كلها، يخدّرها، يشلّها تدريجيا. 
يقتحم عزلتك صوت الست من راديو الجيران، وهي تردّد ببهجةٍ غير مبرّرة "سوف تلهو بنا الحياة وتسخر". تنشلك الكلمات من غيبتك، وتغبط نفسك لتوصلك، أخيرا، إلى تلك النتيجة. توقن أنك وصلت إلى درجةٍ من الحكمة تؤهلك إلى بلوغ مرتبة الاستغناء المطلق، خاتمة متوقعة تليق بمن هم مثلك ممن يعمّر الشك قلوبهم. تحاول الكفّ عن طرح تلك الأسئلة الغبية. تستنير بالريبة، تهتدي بها في عتمتك الاختيارية، تُحكم إغلاق نوافذ بيتك. تلوذ بالسيمفونية السادسة لتشايكوفسكي، وتتساءل معه حين قال "لم أعد أعلم إن كنت أتحسّن أم أنني تعودت على هذا الألم". 
تواصل الاستماع ثملا بالجمال، لاهيا عن كل ما عداه، وتغرق في صمتٍ عميقٍ لا يخلو من بلاغة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.