سياسة الصين الخارجية بين التغير والاستمرارية

سياسة الصين الخارجية بين التغير والاستمرارية

18 مارس 2023

(Getty)

+ الخط -

فجّرت الصين مفاجأة من العيار الثقيل، حين استيقظ العالم على وقع دوي سياسي هائل أطلقه بيان ثلاثي يعلن عن "توصل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران". حمل البيان توقيعات ثلاث: وانغ يي، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب الشؤون الخارجية في لجنته المركزية، والأدميرال علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، والوزير مساعد بن محمد العيبان، وزير الدولة ومستشار الأمن الوطني السعودي. لم يكن توصل إيران والسعودية إلى اتفاق بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ سبع سنوات السبب الرئيسي في هذه المفاجأة المذهلة وما صاحبها من دوي، فالعالم كله كان على علم بمفاوضات بين الدولتين منذ أكثر من عام، بوساطتين، عراقية وعُمانية، وأنها قطعت أشواطاً متقدّمة تنبئ بقرب التوصل إلى اتفاق، لكن أحداً لم يتوقع أبداً دخول الصين على الخط، وإقدامها ليس على وضع لمساتها النهائية فحسب، وإنما التوقيع على بيانها الختامي، ما يعني قيامها بدور الراعي والضامن أيضاً. ضاعف من وقع المفاجأة أن أحداً لم يكن يعلم قط أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، هو الذي وجّه الدعوة بنفسه إلى الوفدين، الإيراني والسعودي، للحضور إلى بكين، وأن المفاوضات التي جرت هناك من 6 - 10 مارس/ آذار الحالي جرت في سرّية تامة. ولأن السعودية تعد أهم حليف للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، بعد إسرائيل طبعاً، فقد فسّر النجاح في تحقيق إنجازٍ بهذا الحجم أنه يعني أمرين متلازمين: تمكّن الصين من إحراز هدف خاطف وسريع في المرمي الأميركي، وبداية تحرّكها العلني والرسمي للولوج إلى حلبة المنافسة على قيادة النظام العالمي، وهو ما اعتبره بعضهم نقطة تحوّل في مسار السياسة الخارجية الصينية.

في وسع كل متأمل لمسيرة السياسة الخارجية الصينية في العصر الحديث أن يدرك أن الصين لم تكفّ عن إدهاش العالم قط في كل مراحل تطوّرها، فهذه الدولة، والتي يشكّل سكّانها سدس سكان الكرة الأرضية مجتمعين، ظلت، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ضعيفة، إلى حد وقوعها فريسة للأطماع الاستعمارية وتعرّض أجزاء واسعة منها للاحتلال الياباني المباشر بين الحربين. وحين نجح الحزب الشيوعي في حسم الحرب الأهلية التي اندلعت في هذه الفترة، وتمكّن من السيطرة على السلطة عام 1949، تصوّر كثيرون أن النظام الشيوعي الذي استقرّ في الصين الشعبية لا يمكن إلا أن يكون تابعاً للحزب الشيوعي السوفييتي، ودائراً في فلك المعسكر الاشتراكي الذي يقوده، وهو ما بدا واضحاً إبّان الحرب الكورية التي اندلعت عام 1950، وأسهمت في إنقاذ النظام الشيوعي في كوريا الشمالية، غير أنه ما لبث أن تبيّن أن النظام الشيوعي الصيني شديد الحرص على المحافظة على استقلاليته، السياسية والعقائدية، حتى لو تسبّب هذا الحرص في اندلاع أعمق الخلافات السياسية والأيديولوجية مع النظام السوفييتي، والتي أدّت بالفعل إلى اندلاع اشتباكات مسلحة على حدود أكبر بلدين شيوعيين في نهاية ستينيات القرن الماضي، وتمكّنت الولايات المتحدة من استغلالها لإحداث تقارب تاريخي مع الصين. وقد تابع العالم في ذهول مشهد ماو تسي تونغ، زعيم "الثورة الثقافية البروليتاريا الكبرى"، والذي يتهم النظام الاشتراكي السوفييتي بـ"التحريفية"، وهو يصافح ريتشارد نيكسون، زعيم "الإمبريالية العالمية" في قلب بكين في أثناء الزيارة التي نجح هنري كيسنجر في ترتيبها عام 1972، ثم تابع في ذهول أيضاً كيف تمكّن الجيل الجديد في الحزب الشيوعي الصيني من تصفية "عصابة الأربعة"، عقب رحيل ماو عام 1976، والانطلاق بالصين نحو عملية إصلاح اقتصادي ضخمة، تمكّنت من نقلها عبر مراحل متدرّجة إلى مصافّ الدول الأكثر تقدّماً.

تدرك الصين أنها وصلت إلى درجة من التقدّم الاقتصادي والتكنولوجي بات من الصعب معه على أي دولة، بما فيها الولايات المتحدة، عرقلة تقدّمها أو منعها من المنافسة على صدارة النظام الدولي

من عجائب الصين الكبرى أن الحزب العقائدي الذي قاد عملية تحوّل نظامها السياسي والاجتماعي، اعتباراً من عام 1949، إلى نظام شيوعي ستاليني شديد الدوغماتية، سيكون هو الحزب الذي سيقود عملية إصلاح كبرى تُفضي إلى تحول نظامها الاقتصادي، اعتباراً من 1978، إلى أكثر النظم ديناميكية، من دون أن يغير كثيراً من بنيته السياسية والاجتماعية. وهو الحزب نفسه الذي سيبلور سياسة خارجية شديدة البراغماتية تستهدف، أولاً وقبل كل شيء، توفير المقومات والشروط اللازمة لازدهار الصين ونهوضها، والدفع بها نحو احتلال المكانة التي تليق بها في النظام العالمي، وهي سياسة ترتكز على مجموعة من المبادئ، في مقدمتها المحافظة على وحدة تراب "الصين التاريخية"، وعدم التفريط في أي جزء منها، وهو ما يفسّر تمكّن الصين الشعبية من استعادة سيادتها على هونغ كونغ، ثم على جزيرة مكاو، وإصرارها الذي لا يتزحزح على استعادة سيادتها على جزيرة تايوان مهما طال الزمن. وثانياً، عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو الانغماس في صراعاتها السياسية، أو المشاركة في سياسة المحاور والأحلاف العسكرية، مع التركيز، في علاقاتها مع جميع الدول الأخرى، على تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. وثالثاً، رفض كل مظاهر الهيمنة في النظام الدولي، والعمل على تثبيت قاعدة المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، باعتبارها القاعدة الرئيسية التي ينبغي أن تسود العلاقات بين الدول كافة، وهو ما يفسّر نجاحها المذهل في صياغة (وتنفيذ) مبادرة الحزام والطريق التي رصدت لها مئات المليارات من الدولارات، واستهدفت الاستثمار في تطوير البنية التحتية للدول المشاركة فيها بما يعود بالنفع على الطرفين، ما مكّنها من أن تصبح الشريك التجاري الأول لمعظم الدول. ويجمع المراقبون على أن هذه المبادرة أصبحت أداة الصين الرئيسية في بناء نفوذها السياسي في العالم.

إذا كان الانفتاح على الولايات المتحدة في منتصف سبعينيات القرن الماضي قد ساهم في تمكين الصين من استيعاب التكنولوجيا المتقدّمة، ودفعها إلى الاندماج في النظام الرأسمالي المتعولم، فإن انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات ساهم في التطبيع التدريجي لعلاقة الصين بروسيا الاتحادية، ومكّنها من تصفية الخلافات القديمة بينهما، وفي مقدمتها الخاصة بترسيم الحدود، ومهّد الطريق نحو تمكينهما من إبرام اتفاق لإقامة شراكة استراتيجية عام 1996. وبعد تسلم بوتين زمام الحكم في روسيا تكشفت آفاق جديدة للتعاون، عبر سعيهما المشترك إلى وضع حد للهيمنة الأميركية المنفردة على العالم، ما مكنهما من عقد اتفاقية "حسن جوار وصداقة وتعاون" عام 2001. ولا جدال في أن التقارب بين البلدين ساعدهما معاً على تحقيق جانبٍ من أهدافهما المشتركة في مراحل مختلفة، فعندما أقدمت روسيا على ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية عليها، أصبحت الصين الداعم الأكبر لروسيا، وساعدتها في التخفيف من عبء هذه العقوبات. وفي المقابل، استفادت الصين من تنازلات وامتيازات كبيرة قدّمتها روسيا لتشجيع الاستثمارات الصينية فيها. وعندما بدأت الولايات المتحدة تستشعر المخاطر الناجمة عن تنامي النفوذ الصيني على الساحة الدولية، وراحت تسعى إلى تحجيم القدرات الصينية وعرقلة تقدّمها على مختلف الأصعدة، خصوصاً عقب وصول ترامب إلى السلطة، وجدت الصين في روسيا وفي بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، بديلاً يعوّضها عن خسائر ناجمة عن اشتداد الحصار الأميركي المضروب حولها. وقبل أسابيع من اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتحديداً في 4 فبراير/ شباط عام 2022، تمكّن البلدان من عقد قمة ثنائية، تحت شعار "نحو عهد جديد في العلاقات الدولية"، عبّرا خلالها عن إصرارهما على وضع نهاية للهيمنة الأميركية المنفردة، وإقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب، يحترم سيادة الدول، ولا يسمح فيه بفرض الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات والقيم قسراً على الدول الأخرى. وقد لوحظ أن حجم التجارة بين البلدين قد حقق زيادة قدرها 27.8% في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية، لتحلّ الصين محلّ الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا.

إذا نجحت الصين في رعاية الاتفاق السعودي الإيراني إلى أن يصل إلى غاياته، فإنها ستتمكّن من توجيه ضربة قاصمة لمحاولات أميركا عزلها

تدرك الصين جيداً أنها وصلت إلى درجة من التقدّم الاقتصادي والتكنولوجي بات من الصعب معه على الولايات المتحدة (أو غيرها)، عرقلة تقدّمها أو منعها من المنافسة على صدارة النظام الدولي. صحيحٌ أنها تدرك جيداً أنها لم تصبح بعد القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، لكنها تعي، في الوقت نفسه، أن الوقت يعمل لصالحها، خصوصاً أنها تمثل الثقل الديمغرافي الأكبر في العالم. وفي هذا السياق، يمكن فهم التحرّك الصيني لتطبيع العلاقات بين إيران والسعودية، أهم دولتين منتجتين للطاقة في الشرق الأوسط، ما قد يفتح آفاقاً غير محدودة لتغيير موازين القوى، ليس في هذه المنطقة فحسب، وإنما في العالم بأسره، خصوصاً إذا نجحت في رعاية الاتفاق الإيراني السعودي حتى النهاية، ووقفت في وجه المحاولات الرامية إلى إفشاله. وقد نشرت تقارير صحافية أخيراً تؤكّد أن هذا الاتفاق يتضمّن بنوداً سرّية تتعهّد بموجبها كل من السعودية وإيران بعدم القيام بأي نشاط يؤدّي إلى زعزعة استقرار أي منهما، على المستويات الأمنية أو العسكرية أو الإعلامية، حيث تعهدت السعودية بعدم تمويل الوسائل الإعلامية التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار في إيران، كقناة "إيران إنترناشيونال"، وبعدم تمويل المنظمات التي تصنّفها إيران إرهابية، مثل "مجاهدي خلق" والمجموعات الكردية التي تتخذ من العراق مقرّاً لها، أو التي تعمل انطلاقاً من باكستان، في مقابل تعهد إيران بضمان ألا تستهدف التنظيمات الحليفة لها الأراضي السعودية بأي سوء، وسعيهما معاً إلى بذل الجهود الممكنة لحل النزاعات في الإقليم، وفي مقدمتها النزاع في اليمن، بما يؤدّي إلى تأمين حل سياسي يحقق السلام الدائم في هذا البلد. كما أكّدت هذه التقارير، في الوقت نفسه، أن الوفد السعودي شدّد في أثناء المباحثات على أن بلاده متمسّكة بالمبادرة العربية للسلام مع إسرائيل، وأنها لن تذهب إلى التطبيع مع تل أبيب قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. وإذا صحّت هذه التقارير، ونجحت الصين، في الوقت نفسه، في تعهد الاتفاق السعودي الإيراني بالرعاية، إلى أن يصل إلى غاياته النهائية، فإنها ستتمكّن من توجيه ضربة قاصمة للمحاولات الأميركية الرامية إلى عزلها، والحيلولة دون فوزها بالجائزة الكبرى، قيادة النظام العالمي، طال الزمن أم قصر.