درس من فصول الديمقراطية

درس من فصول الديمقراطية

03 أكتوبر 2020

ترامب وبايدن في أولى مناظراتهما في أوهايو (20/9/2020/Getty)

+ الخط -

يمكن القول إن الديمقراطية في أميركا ديمقراطيتان، واحدة للتداول في الداخل، وأخرى للخارج تستخدم مطية للسياسة الأميركية الطامعة بالعالم أجمع، والتي تتصرف بدافع إحساسٍ يحمل قدرًا من النرجسية والغطرسة، إحساس التفوق والحق في التدخل بشؤون العالم قاطبة. والهدف غير المعلن دائماً هو السيطرة، ومزيد من السيطرة كل مرة بذريعةٍ مختلفة، إنما تحت عناوين برّاقة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحدّ من أسلحة الدمار الشامل وتحقيق الاستقرار وغيرها. وفي النتيجة، تخوض أميركا حروبها أصالةً أو وكالةً في سبيل تحقيق مصالحها، والإبقاء على تفوقها وتبوئها قيادة العالم، وهي لا تتورّع عن إرسال جيوشها، أو إدارة معاركها بدعوى الدفاع عن الديمقراطية في العالم.

على المستوى الداخلي، لا تتجلى الديمقراطية في النظام الانتخابي فقط، بل في المؤسسات الدستورية والسلطات التشريعية التي تأخذ دورها بطريقةٍ محكمةٍ تستند إلى المعايير الديمقراطية والمعطيات الدستورية والقانونية إلى حدّ ما. صحيحٌ أن هناك حزبين فقط يحتكران الحراك السياسي في البلاد، الديمقراطي والجمهوري، ولكن في كل منهما مروحة من الأفكار والطروحات، يختلف أعضاء الحزب الواحد حولها بين أقصى يمين الحزب وأقصى يساره، مروراً بالاعتدال، ولقد شهدنا تنافس مرشحي كل حزبٍ في الوصول إلى الترشّح للانتخابات الرئاسية والفروق بين مواقفهما من قضايا داخلية وخارجية كثيرة، من ملف الهجرة إلى ملف البيئة إلى التجارة إلى الرعاية الصحية إلى التعليم إلى العنصرية، وغيرها قضايا عديدة داخل الحزب الواحد. 

لا أحد فوق الإنتقاد أو الشبهة في الديمقراطية الأميركية، حتى لو حاولت اللوبيات التلاعب والمواربة وتضليل التحقيق

معلوم أن أصابع الاتهام والتشكيك تتوجه باستمرار إلى الديمقراطية الأميركية، ناعتة إياها بأنها حكم الأغنياء وحكم المال واللوبيات الضاغطة التي تدير المنافسة الانتخابية وتتحكّم بها، وأن الانتخابات لا تمثل رأي الشعب وإرادته، وإنما تمثل توجُّه اللوبيات تلك التي تحدّد السياسات عن طريق تحديد أولويات الدولة، لكن في النتيجة إذا ما أردنا تقويم الديمقراطية، فإنه يمكن القول إنها التجربة الأكثر ضمانًا لاستقرار الدول، بما تتضمن من فسح المجال الدائم للحراك السياسي، ومحاصرة أداء الحكومات بالأدوات الدستورية، ومتابعة أدائها من أعلى الهرم إلى قاعدته، وتفعيل النقد وطرح وجهات نظره ونتائجه المستخلصة على الرأي العام، عن طريق الإعلام ووسائل الميديا المتنوّعة، وتفعيل السلطة القضائية والسلطة التي لها حق المحاسبة على الأخطاء والارتكابات، بعد التحقيق المدعوم بالحجّة والبرهان والوثيقة.

لا أحد فوق الانتقاد أو الشبهة في الديمقراطية الأميركية، حتى لو حاولت اللوبيات التلاعب والمواربة وتضليل التحقيق، فإن هناك هامشًا كبيرًا من الحرّيات يجعل العيون المراقبة مفتوحةً بجرأة وانتباه على أداء أيٍّ كان من الرئيس ونزولاً. وقد كان ملف الرئيس الحالي، دونالد ترامب، حافلاً منذ انتخابه رئيساً في عام 2016 بملفات وقضايا كثيرة تثار حوله، وتضعه في دائرة الشك والإتهام، جديدها فضيحة التهرّب الضريبي التي أثيرت أخيراً، بحسب صحيفة نيويورك تايمز.

وفي المناظرة التلفزيونية بينهما، والتي بُثت في 30 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) على الهواء مباشرة، وفي وقت ذروة المشاهدة لدى الشعب الأميركي، استباح كل من المرشحين لانتخابات الرئاسة، الجمهوري ترامب والديمقراطي بايدن، الآخر، ولم يوفّرا تجاه بعضهما بعضاً أي اتهام أو نعت، مهما بدا أنه لا يتناسب مع موقعيهما مرشحيْن لرئاسة أقوى دولة، فتبادلا الشتائم والاتهامات بشأن قضايا عامة، وهي من صميم المسؤولية السياسية والبرامج المطلوب إعلانها حولها، كجائحة كوفيد - 19، وتفوق البيض والاقتصاد والرعاية الصحية وغيرها، حدّ أن بايدن وصف ترامب بالمهرّج، وقال له: اخرس. أما ترامب فوصف بايدن بالغباء، وعيّره بابنه بأنه يتعاطى المخدّرات، واتهم كلاهما الآخر بالكذب، بل إن بايدن خاطب ترامب، الذي ما زال رئيس البلاد قائلاً: استمر في النباح، يا رجل".

خلال المناظرة بينهما، استباح كل من المرشحيْن لانتخابات الرئاسة، الجمهوري ترامب والديمقراطي بايدن، الآخر، ولم يوفّرا تجاه بعضهما بعضاً أي اتهام أو نعت

وبغض النظر عن ثغرات الديمقراطية الأميركية، ومدى تحقّقها بنزاهة، فإن المناظرة التي استمرت تسعين دقيقة كانت كافية لتُظهر أن لا أحد محاطاً بهالة من القدسية، وأن الأفراد المرشّحين لأعلى منصب في أقوى دولة هم بشر عاديون، يمنحهم الشعب الثقة عن طريق الانتخابات، ولكن لا يمنحهم الهالة التي تصنع المفارقة، وتجعلهم أفراداً مختلفين، يملكون من المهابة والتبجيل والإجلال حدّاً قد يصل إلى التقديس. هم أفراد من الشعب، يمكن أن يخطئوا، ويمكن أن يكون لهم سلوك مشين، ويمكن أن يرتكبوا المخالفات، ويمكن أن ينزلقوا خلال مسيرة حياتهم. وبالتالي، ما يمكن إثباته عن طريق المؤسسات المعنية، ويقدّم البراهين، قد يؤثر على حجم الأصوات التي يكسبها، وإنْ لم يؤثر، أو إن حدثت المفاجأة، كما قد يحصل في الانتخابات الأميركية، وتظهر النتيجة بعكس التوقعات، فإن الرأي العام يبقى راصداً أداءه، ويستعمل حقه في الاعتراض والاحتجاج عند أي ارتكابٍ أو مقاربةٍ لا يرضى عنها الشارع لأي مشكلة أو قضية، حقه في التظاهر الذي يكفله الدستور، وتوفّره روح الديمقراطية التي أصبحت تجربة حياةٍ، وليست تنظيراً فقط.

هي نقطة لافتة تستدرج معها إلى الوعي صورة القائد أو الزعيم أو الرئيس أو الحاكم وما شابه، بالنسبة إلى شعوب منطقتنا الغارقة في حياة استنقاع، تبدو كأنها لم تخرج من الماضي، ولا تهتم بالخروج منه، ولقد تجذّر هذا المفهوم والحاجة النفسية إليه مجدّداً، بعد ما شهدته الشعوب في العقد الذي سمّي الربيع العربي، وما تلاه من انكساراتٍ وخيباتٍ وهزائم للأحلام الطامحة بالحرية والديمقراطية وبناء دولة حديثة.

في الديمقراطية، لكل مواطن الحق في أن يقول رأيه، ويشير بإصبعه، مهما كان لونها، إلى الرئيس

يسعى الحاكم في الأنظمة الشمولية أو التي تستأثر بالسلطة، وتقضي على الحياة السياسية في بلدانها، إلى تكريس نفسه في وعي الجماهير بطلاً تُنسب إليه كل خطوة يخطوها الشعب في مسيرته، وتُنسب إليه كل الإنجازات التي تحققت، والتي نُصبت أمام الأعين أنها أهدافٌ عظيمةٌ يقود الشعب إليها، مهما كانت التضحيات والأثمان، حتى تتحوّل مع التقدّم تلك الشعارات والقضايا إلى هياكل فارغة فاقدة أي محتوى أو قيمة ويطويها النسيان، لكنها تكون قد عشّشت في لا وعي الجماهير. ويبقى الحاكم أو الزعيم في وجدانها هو القائد الفذ الملهم الحكيم الذي لا يطاوله النقد، وحكمه مطلق لا يُحاسب، ويكتسي هالةً من الرهبة، تصل حدّ القدسية، تجعل لا أحد يجرؤ على مراجعة سياساته، أو تقويم أدائه، فهو الذي لا يخطئ، ويسعى الحاكم المطلق إلى تعزيز هذا الشعور في وجدان الشعب الذي يدعى رعيّة.

في الديمقراطية، لكل مواطن الحق في أن يقول رأيه، ويشير بإصبعه، مهما كان لونها، إلى الرئيس، ويطلق في وجهه صرخة تهديدٍ إن هو قصّر في واجبه، أو خيّب أمل شريحةٍ من الشعب. ويمكن تجميع الأدلة ضده وسحب الثقة منه بكل جرأة، بينما نحن، شعوب هذه الدول المنكوبة، جرّدتنا تجارب التاريخ والخيبات والهزائم المتلاحقة والثقافة التي سطت على عقولنا على مدى قرون من التبعية، من إمكانية ابتداع مشروع مستقبلي، من دون أن يكون في رؤوسنا صنم للقائد الخالد أو الزعيم أو البطل المهيب حدّ القداسة، الذي يصنع المعجزات لنا، الذي من دونه يمكن أن نفقد البوصلة ونتوه أكثر مما نحن تائهون، قد يكون التعميم خطأ، لكن الواقع قدّم لنا البراهين على ذلك، وعلى أن شعوبنا لم تتخلّص من هذه النزعة بعد، والدليل يمكن استنباطه من المناطق التي خرجت عن سيطرة الأنظمة الحاكمة في أكثر من بلد من بلدان الربيع العربي.