حزب ترامب الجمهوري

حزب ترامب الجمهوري

26 يناير 2024
+ الخط -

وكأن ساعة الزمان تعود ثلاث سنين ونيفا إلى الوراء، لتضع من جديد دونالد ترامب في مواجهة جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية. الفارق اليوم أن بايدن هو الرئيس في البيت الأبيض، وترامب هو من يسعى إلى إطاحته. وفي حين أن الاختلافات كثيرة بين الرجلين لناحية المواقف والسياسات، إلا أن بينهما أمورا أخرى مشتركة. كلا الرجلين لا يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الأميركيين، إذ تبلغ نسبة من يؤيدون سياسات بايدن 41% مقابل 42% لترامب. ويقول 59% من الناخبين الأميركيين إنهم لا يريدون أن تكون انتخابات الرئاسة هذا العام إعادة لسيناريو انتخابات عام 2020 بين المُرَشَحَيْنِ نفسيهما. كما أن كليهما، بايدن وترامب، عجوزان تثار حول صحتيهما وقدراتهما الذهنية أسئلة كثيرة، خصوصاً في حالة بايدن البالغ 81 عاماً، وسيكون، إذا فاز في الانتخابات المقبلة، في نوفمبر / تشرين الثاني من هذا العام، قد بلغ 82 عاماً. أما ترامب فيبلغ 77 عاماً، وسيكون يوم الانتخابات قد أتمَّ 78 عاماً. وإذا ما تحققت التوقعات، شبه المحسومة، بأن الرجلين سيكونان مرشحَي حزبيهما، الديمقراطي والجمهوري، سيبدو الأمر وكأن أميركا تقبع في الماضي وتتعثر في خوض غمار المستقبل. أهي من علامات الشيخوخة الأميركية؟ ربما، وإن كان هذا أمرا غير مقطوع به، وسيعتمد على ما إذا كانت القوة العظمى ستسلك مساراً مستقبلياً تصحيحياً أم لا. ولكنّ هذه حكاية أخرى.

لنضع بايدن جانباً، إذ إنه الرئيس الحالي، ورغم أن غالبية قواعد الحزب الديمقراطي لا تفضّله مرشحاً عنها إلا أن مسألة تجاوزه صعبة جداً. أما الحال مع ترامب فمختلف، فهذا رئيس سابق عُزِلَ مرتين في مجلس النواب الأميركي. الأولى، عام 2019 بتهمة إساءة استخدام السلطة ومحاولة تعويق تحقيقات الكونغرس. والثانية، عام 2021 بتهمة إثارة تمرّد واقتحام مبنى الكونغرس لمنعه من المصادقة على انتخاب بايدن رئيساً. كما أنه يواجه أربع قضايا جنائية خطيرة في واشنطن وجورجيا ونيويورك وفلوريدا، فضلاً عن قضايا مدنية وتجارية أخرى. أيضاً، هو متهم من خصومه في الحزب الجمهوري بأنه تسبب للحزب بثلاث خسارات انتخابية نصفية ورئاسية متتالية، أعوام 2018، 2020، و2022. إذن، يقول المنطق إن ترامب لا ينبغي أن يكون مرشحاً معتبراً عن حزبه، إلا أن للواقع رأيا آخر.

ليس وحده الحزب الجمهوري الذي يواجه احتمال إعصار ترامب المدمّر القادم، بل كل أميركا

شهد شهر يناير / كانون الثاني الجاري انطلاق الانتخابات التمهيدية في الحزب الجمهوري لتحديد هوية مرشّحه للانتخابات الرئاسية خريف هذا العام. وجرت الانتخابات في ولايتي آيوا ونيوهامبشاير، وفي كلتيهما فاز ترامب باكتساح، وتساقط منافسوه واحداً تلو الآخر وانسحبوا من أمامه، ولم يبق إلا مرشحة واحدة، نيكي هيلي، حاكمة ولاية ساوث كارولاينا سابقاً، وسفيرة الولايات المتحدة في إدارة ترامب السابقة في الأمم المتحدة. لم يحصل في تاريخ الحزب الجمهوري أن فاز مرشّح لا يشغل منصب الرئاسة وقت الانتخابات التمهيدية بولايتي آيوا ونيوهامبشاير على التوالي. صحيح أنه يبقى 48 ولاية أخرى لم تعقد انتخاباتها التمهيدية بعد، لكن المكتوب يُقرأ من عنوانه، فترامب يملك الحزب الجمهوري، كما تظهر استطلاعات الرأي المتتالية، ويبدو حسب هذه الاستطلاعات أنه سيفوز، على الأرجح، في الانتخابات التمهيدية للحزب في الولايات الخمسين. هذا أمر، إن تمَّ، فغير مسبوق تاريخياً في الولايات المتحدة كذلك، في حالة مرشّح لا يشغل الرئاسة.

ثمَّة إقرار، حتى داخل أروقة الحزب الجمهوري، بأن الحزب تحول إلى طائفة “cult” يتمحور حول "الملك ترامب". هذا رجل لا تضرّه في أعين أتباعه أي اتهامات مهما بلغت جدّيتها، ولا تهوي به أي فضائح مهما انحدر دركها. كل ما يقوله لهم حق. إن قال لهم إن الانتخابات الرئاسية عام 2020 سُرقت منه لصالح بايدن فهو صادق. وإن قال لهم إن ثمَّة دولة عميقة تستهدفه فإن هذا لا يرقى إليه شك. وإن قال لهم إن كل الاتهامات، الثابت بعضها ضده، مجرّد مؤامرات فهذه هي الحقيقة. ومن ثمَّ، يتسابق أغلب المنافسين السابقين لترامب، وكذلك قادة الحزب الجمهوري، إلى الاصطفاف وراءه و"تقبيل خاتم الملك"، إذ لا مستقبل لأغلبهم إن هم وقفوا ضد أمواج بحره العاتية. أمَّا من اختار تحدّيه، كالمرشحة الأخيرة أمامه، هيلي، أو المرشّح المنسحب من قبل، حاكم ولاية نيوجرسي السابق، كريس كريستي، فإن التنكيل هو مصيرهما وجعلهما عبرة لمن لا يعتبر.

من المفارقات أن استطلاعات الرأي تظهر أن ترامب ليس بالضرورة المرشّح الجمهوري الأقوى لتحدي بايدن وإخراجه من البيت الأبيض، لكن حتى هذا لا يعني شيئاً لغالبية القاعدة الجمهورية، التي تتمسك به ظالماً أم مظلوماً. ومن المفارقات الأخرى أن ترامب لم يشارك في مناظرة واحدة للمرشّحين الجمهوريين، بل كان يفضل أن يقوم باستعراضات سياسية في المحاكم الكثيرة التي يقف أمامها. ومع ذلك، فإنه في كل مناظرة جمهورية جرت خرج هو الفائز بها، رغم أنه غائب عنها! إذا لم تكن هذه صورة من صور عبادة الشخص فماذا تراها تكون؟

ترامب رجل طامح بالعودة إلى الحكم مدفوعاً بغريزة الانتقام من الجميع

ليس وحده الحزب الجمهوري الذي يواجه احتمال إعصار ترامب المدمّر القادم، بل كل أميركا. هذا رجل طامح بالعودة إلى الحكم مدفوعاً بغريزة الانتقام من الجميع، في كل إدارات الدولة المدنية والعدلية والأمنية والعسكرية، الذين يعتقد أنهم خانوه. بل إنه لم يخفِ نيته أن يكون "مستبداً"، ولو ليوم واحد لِيَسْتَبدَّ بكل خصومه. كما أنه تحدّث مراراً وتكراراً، بشكل صريح، إنه سيعمل على توظيف وزارة العدل سياسياً لاستهداف بايدن، قائلاً: "سأعيّن مدعياً خاصاً حقيقياً لملاحقة الرئيس الأكثر فساداً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، جو بايدن، وعائلة بايدن الإجرامية بأكملها، وجميع الآخرين المتورّطين في تدمير انتخاباتنا وحدودنا وبلدنا نفسه". في حين لم يتردّد أحد مستشاريه القريبين، كاش باتل، وهو مرشّح لمنصب كبير في مجلس الأمن القومي الأميركي، إن فاز ترامب بالرئاسة، في تهديد وسائل الإعلام الأميركية بالملاحقة لأنهم "كذبوا على المواطنين الأميركيين، وساعدوا بايدن في التلاعب بالانتخابات الرئاسية". وإذا وصل ترامب فعلاً إلى الرئاسة ومضى في تنفيذ وعيده، فإنه سيكون أكثر تحرّراً هذه المرّة في إمضاء كثير مما يريد عبر قرارات تنفيذية، ذلك أنه سيعمل على تعيين موالين مطلقين له في إدارته، في حين أن غالب الأعضاء الجمهوريين الحاليين في الكونغرس أكثر ولاء له، مما كان عليه الحال خلال رئاسته الأولى.

إذن، لا شك أن ترامب سيمثل تحدّياً خطيراً للديمقراطية والقيم الأميركية وتماسك نسيج المجتمع، خصوصا وهو يهدّد الأقليات، ومنهم المسلمون الأميركيون، والمهاجرون، بل وكل من يجرؤ على التظاهر ضد جرائم إسرائيل في قطاع غزّة، على أساس أنهم مؤيدون لحركة حماس. لكن، هذا لا يعني أن بايدن سيحصل بشكل تلقائي على أصوات جميع من يبغض ترامب وكل ما يمثله ترامب. لن تكون انتخابات عام 2024 كما انتخابات عام 2020 عندما كان منطق حملة بايدن قائماً على أنه نقيض ترامب. لم يعد ذلك يكفي اليوم، فبايدن هو الرئيس هذه المرّة، وهناك استياء كبير بين قاعدته الانتخابية وبين المستقلّين من سياساته الاقتصادية والبيئية وإصراره على الترشح رغم كبر سنه وتدهور صحته وقدراته الذهنية. ولا ننسى هنا، طبعاً، وقوفه ودعمه وشراكته في جريمة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة. هذا كله، سيضع أميركا والعالم على أعتاب فوضى قد تكون قادمة. لكن، هل استطاع بايدن أن يسيطر على فوضى ترامب السابقة، كما كان وعد، أم أنه أضاف إليها، بل وعمقها! تجدون الإجابة في أوكرانيا وفي قطاع غزّة، وكامل الإقليم الموصوف بـ"الشرق الأوسط".