حرب عمياء لا معنى لها

حرب عمياء لا معنى لها

17 أكتوبر 2020
+ الخط -

تكاد تكون الحرب الأذرية الأرمنية لا معنى لها، وذلك لهشاشة الأسباب التي تحرّكها، ولأنها نجمت عن مشكلة مفتعلة، تسبب بها طرف ثالث، هو الاتحاد السوفييتي السابق في عهد جوزيف ستالين، حين ألحق إقليم ناغورني كاراباخ، ذا الأغلبية الأرمنية بأذربيجان في عام 1921. ولئن كان هناك محتوى عرقي وثقافي للصراع، إلا أن هذا الاختلاف لا يبرّر نشوء الحرب وإدامتها، واحتسابها باعتبارها من حقائق الحياة وطبائع الأمور، كما يتوّهم دعاة الحرب، فالعالم كله يسوده الاختلاف بين دوله وشعوبه والحرب ليست حلاً للاختلاف، كما أن الاختلاف، بحد ذاته، ليس شراً دائماً. ولكن الحرب مع ذلك تتجدّد، ويجري، بين آونة وأخرى، تسخين ذرائعها. ولا تبدو الدول الثلاث، الولايات وروسيا وفرنسا، التي تشكل مجموعة أمنيسك، معنية بتسويةٍ دائمةٍ، وبنزع نهائي لذرائع الحرب، بقدر ما أنها معنية بوقف إطلاق النار، وبإبقاء وميض النار يتراقص تحت الرماد. وثمّة أطراف أخرى ذات تأثير، مثل إسرائيل وإيران وتركيا، وكل منها تبحث عن مصالحها بيعاً وشراء ونفوذاً، ولا يعنيها أن يبقى الأذريون والأرمن في صراع أبدي وتناحري، ما دامت المصالح محفوظة. بل إن الحرب الدائمة "مطلوبة" من أجل أن يبقى الطرفان بحاجة إلى شراء الأسلحة والمعدات، ومن أجل بقاء قواعد عسكرية أجنبية هنا وهناك. الحرب هي أفضل استثمار للآخرين. ومع ذلك يندفع إليها الطرفان، ولا يسعيان إلى تسوية دائمة.

أرمينيا الجارة لم تكتف بدعم أرمن الإقليم، بل شجعتهم على احتلال أرض أذرية تحيط بالإقليم، وتضاهي مساحتها ما نسبته 20% من مساحة أذربيجان

أجل، أسباب الحرب هشّة ومفتعلة، فإقليم ناغورنو كاراباخ يعود للأرمن ولأرمينيا، لكنه ليس كياناً قائماً بذاته ولا مشروع دولة. والأسوأ أن أرمينيا الجارة لم تكتف بدعم أرمن الإقليم، بل شجعتهم على احتلال أرض أذرية تحيط بالإقليم، وتضاهي مساحتها ما نسبته 20% من مساحة أذربيجان. وقد حدث ذلك إثر انفكاك كل من جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان عن الاتحاد السوفييتي المنهار مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهو ما أدّى إلى حرب السنتين بينهما التي ذهب ضحيتها آلاف من الجانبين، وأدت إلى تشريد نحو مليون أذري. هكذا جرى تعميد الاستقلال الناشئ بالعداء الدموي للجار. وقد سارعت روسيا إلى إعادة بسط نفوذها على أرمينيا، بمنحها أسلحة ونصب صواريخ روسية ومعدّات وبناء قاعدة روسية فيها. وبذلك خرجت روسيا من الباب، وعادت من النافذة إلى هذا البلد، كما منحت أذربيجان أسلحة (بحجم أقل ومستوى أقل) من أجل إشاعة انطباع بالحياد الروسي بينهما.

حل النزاع بين الجانبين ليس شائكاً، فإقليم ناغورنو كاراباخ، الأرميني تاريخياً وجغرافياً، لا بد من عودته إلى الأرمن في أي اتفاق

وإلى ذلك، "نجحت" أرمينيا، بفضل اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة، في أن تصبح من الدول التي تتلقى دعماً مالياً منتظماً من واشنطن، إضافة إلى علاقات تسليحية واقتصادية وثيقة، تم نسجها على مدى ثلاثة عقود مع إيران التي تخشى من تأثير أذربيجان على الأذريين في إيران، وهؤلاء بالملايين. وفي المقابل، تتلقى أذربيجان الدعم العسكري من تركيا مقابل التزود بالغاز الأذري. وينظر الأتراك إلى الأذريين باعتبارهم أشقاء في القومية معهم، وشعب واحد في بلدين. وإلى جانب تركيا، نشطت باكو، عاصمة أذربيجان، في نسج علاقات عسكرية مع تل أبيب، تمثلت، في الأساس، بشراء طائرات مسيرة ومعدّات عسكرية مختلفة. ويبدى الإسرائيليون اهتماماً بالوجود في أذربيجان التي تحاذي إيران في حدود برية، يزيد طولها عن ألف كيلومتر.

هكذا ينجح الطرفان في جمع النقائض، فأرمينيا تجمع روسيا وأميركا على دعمها، إضافة إلى فرنسا من طرف خفي، وأذربيجان تجمع تركيا وإسرائيل، على الرغم من التنافر القائم بينهما. وتبرز العلاقات الوثيقة لدى الجانبين بالأطراف الإقليمية والدولية في ظروف الحرب واستعار الصراع مع الجار. وفي محاولات إطفاء الصراع، أصدر مجلس الأمن الدولي عام 1993 قراره رقم 822، طالب القوات الأرمنية بالانسحاب من المناطق المحتلة في أذربيجان، لكن هذه القوات لم تستجب للقرار الأممي، علماً أن أرمينيا تخوض الحرب مع جارتها أذربيجان بصورة مباشرة عبر التراشق بالصواريخ العابرة للحدود، ومن خلال دعم القوات الأرمنية التي تتبع إقليم ناغورني كاراباخ. ومن الواضح أن هناك تداخلاً بين هو أرميني خارج الحدود الأذرية وما هو أرميني داخل هذه الحدود في الإقليم.

وفي يونيو/ حزيران عام 2011، أجرى الرئيسان، الأذربيجاني إلهام علييف والأرميني سيرج سركسيان، محادثات برعاية الرئيس الروسي، ديمتري ميدفيديف، في مدينة قازان الروسية، إلا أنهما لم يتوصلا إلى اتفاقٍ ذي وزن، كالالتزام بالامتناع عن استخدام الوسائل العسكرية لفض النزاع.

تجمع أرمينيا روسيا وأميركا على دعمها، إضافة إلى فرنسا، وأذربيجان تجمع تركيا وإسرائيل، على الرغم من التنافر بينهما

وخلال جولة الصراع الراهنة، ومع التقدم الأذري، أعربت أرمينيا عن استعدادها لما سمته تقديم تنازلات متبادلة بين الجانبين، غير أن الطرف الأذري رأى في هذا العرض شاهداً على حالة ضعف، وطالب الطرف الآخر بالانسحاب من غير قيد أو شرط، علماً أن حل النزاع بين الجانبين ليس شائكاً، فإقليم ناغورنو كاراباخ، الأرميني تاريخياً وجغرافياً، لا بد من عودته إلى الأرمن في أي اتفاق، مع تمتع أذربيجان بكل الترتيبات والضمانات بألا يتخذ هذا الإقليم بؤرة للعداء والتحشيد ضدها، وذلك مقابل انسحاب القوات الأرمينية من كل المناطق الأذرية التي احتلتها في عام 1992، وتمكين زهاء مليون أذري من العودة إلى مناطقهم، ويتبع ذلك حصر الأضرار وتحديد التعويضات عن فترة ثلاثة عقود مضت.

الحرب اللامعنى لها، الدائرة بين البلدين، تُضعفهما معاً اقتصادياً وعسكرياً، فأرمينيا تفتح أراضيها لروسيا كي تعزّز هذه وجودها العسكري في هذا البلد، والتأثير على مركز القرار فيه، وأذربيجان تفتح حدودها وأراضيها لتركيا من جهة، ومن جهة ثانية، تواصل شراء أسلحة ومعدات عسكرية إسرائيلية، وما يتبع ذلك من استقدام خبراء ومستشارين، حتى بلغت مشترياتها، خلال العقد الأخير، خمسة مليارات دولار.

وليس معلوماً إن كانت هناك أصواتٌ لعقلاء من الجانبين ترسم سيناريوهات واقعية لتعاون أذري أرميني ممكن ومطلوب، ولحسن جوار متبادل، ولحل المشكلات العالقة بحسن نيات، وبما لا يمس حقوق الطرفين، إذ إن ارتفاع أصوات طبول الحرب يطمس كل صوت آخر، ويعيق التفكير الهادئ المتزن.