حافظ الأسد .. الصمود والدعم

حافظ الأسد .. الصمود والدعم

06 فبراير 2022
+ الخط -

الشاطر في سورية اليوم، تعريفاً؛ هو مَن يستطيع أن يضيف ثقباً، أو بخشاً جديداً، إلى المصفاة.. ولأن "البخاويش" كثيرة، فإن دقة ملاحظة المرء وقوة ذاكرته تُقاسان بمقدرته على تحديد مكان البخش الجديد، وما إذا كان سالكاً ويزرب بسلاسة مثل زملائه.. ثَقبت السنواتُ الـ 11 السابقة قسماً كبيراً من المواطنين السوريين، وأجبرتهم على ترك بيوتهم، وتحويشات أعمارهم، وذكرياتهم، وحوّلتهم إلى لاجئين أيتام على مآدب الشعوب، وغربلت المواطنين الباقين في مناطق النظام، وخَردقتهم. ثم جاء ما يسمّى "رفع الدعم عن السلع الضرورية"، وكأنه الثقب الأخير الممكن إضافته إلى هذه المصفاة. ثمة حكاية أخرى تعبر عن هذا الوضع، أن رجلاً مصاباً بتسعة وتسعين مرضاً، وفجأة نبق له فتاق، فضحك، وقال: أهلاً بتتمة المائة.

في الثمانينيات، وبينما كانت أزمات الفقر والتضخّم وفقدان المواد الاستهلاكية في سورية ضاربةً أطنابها في ربوع سورية الغناء، أتحفتنا إذاعة بي بي سي اللندنية بكلام، صنّفت فيه حافظ الأسد سادس أغنى رجل في العالم. استغربنا هذا الكلام، يومئذ، وقلنا إن هذه الإذاعة الاستعمارية تكذب علينا، لتضليلنا. وتساءلنا: من أين يأتيه الغِنى والشحار؟ الرجل فلاح ابن فلاح، يجلس على كرسيه، هادئاً، مسبلاً، لاوياً رقبته مثل المحكومين بالإعدام، وأغلب الظن أنه يقرأ في سرّه بعضاً من قصار السور، وإذا تحدّث يتهدّج صوته، ويقطِّش مثل سيارة دوزوتو عتيقة، بطاريتُها على وشك النفاد، وبينما كان ضيوفه، من الفرنسيين والإنكليز والأميركان الإمبرياليين، يلوبون، ويتحرقصون بسبب ضغط مثاناتهم، يجلس ست ساعات متواصلة، لا يشخّ، ولا يتثاءب، ولا يعطس. ويتحدّث، بهدوء، عن ضرورة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، واسترداد مرتفعات الجولان، ويؤكّد لضيوفه المزنوقين أننا لسنا هواة قتل وتدمير، ولكننا ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير، إلى آخر الديباجية الخطابية التي كان يؤلفها ويزوّده بها الدكتور إسكندر لوقا..

أما إذا توجّه بخطابه إلينا، نحن المواطنين، فإن صوته يقطش أكثر، حتى لنعتقد أن تبديل بطارية الدوزوتو أصبح أمراً لا مندوحة عنه، وموضوع حديثه الحنون (أو: الحِنَيِّنْ، كما يقول إخوتنا المصريون)، لا يخرُج عن نطاق الصمود، والتصدّي، ومواجهة المؤامرات الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وشد الأحزمة على البطون، وتبديل جلدة الحنفية التي تنقط الماء، انسجاماً مع تعليمات المؤسسة العامة لمياه الفيجة القائلة إن ما يتجمع قطرة قطرة، يمكن أن يُهدر بالتنقيط جلدة جلدة، أي قطرة قطرة.. ومن فرط إنسانيته، وتقاه، ووطنيته، كان يحدّثنا عن روعة الاستشهاد في سبيل الله، والوطن، ويفتح لأبناء الشهداء مدارس لو كان آباؤهم يعرفون أنها ستكون بهذه الروعة، لما تأخروا في الاستشهاد طوال تلك الأيام والسنين.

قال لنا حافظ الأسد، ذات مرة، إن الخبز خط أحمر.. والتفت إلى معاونيه، وحاشيته، ومستشاريه، ومخابراته، ووزرائه، وحلف لهم يميناً معظّماً، على أنه إذا مسّ أحدٌ منهم خط الخبز الأحمر فلا يلومن غير نفسه، وعلى نفسها جنت السيدة براقش، وأنه، حافظ، لن يكتفي بدعم الشعب الذي سيخرج في مظاهرات احتجاج على رفع سعر الخبز، بل سيكون في طليعة المتظاهرين.

ودارت الأيام، ومرّت الأيام، وأصبحنا نصدّق أن بيت الأسد يسرقون مال الشعب السوري، وأنهم مسؤولون عن فقره وتشرّده وجوعه. ويوم أوعز حافظ الأسد، سنة 1994، إلى مجلس الشعب بإصدار قانونٍ يقضي بإعفاء المواطنين السوريين من ضريبة التركات، دبك قسم كبير منا، احتفاءً بهذه المكرمة، ولكننا سرعان ما عرفنا أنه فعل ذلك لأن الحكومة السويسرية لم تقبل بتسليمه 20 مليار دولار المودعة باسم ابنه شهيد السرعة الجنونية "الباسل"، قبل إخضاعها لضريبة التركات، بحسب القانون السوري، وأولئك السويسريون المساكين لا يعرفون، على الأرجح، أن إصدار القوانين، وإلغاء القوانين، ووضع الدساتير، وتعديلها، وتعطيلها، في هذه البلاد المنكوبة، الغلبانة، أسهل من شرب الماء.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...