حاجة منطقتنا إلى الوساطات لا الحروب

حاجة منطقتنا إلى الوساطات لا الحروب

20 فبراير 2024
+ الخط -

تعيش منطقتنا أجواء عاصفةً تُنذر بانهيارات وفيضانات سياسية تهدّد دولها ومجتمعاتها التي عانت كثيراً على مدى عقودٍ من الانقلابات والنزاعات والحروب والمخاوف من المجهول القادم. يؤكد مشروعية هذه الهواجس وجود جروحٍ مفتوحةٍ تنزف بغزارة، تتمثل في مئات آلاف من الضحايا والمعوّقين والمغتصبات والمغيبين؛ إلى جانب ملايين من المهجّرين والنازحين والمشرّدين. وهناك الاستنزاف الاقتصادي الذي يبدّد موارد المنطقة، ويوجّهها نحو ميادين لا تخدم مصلحة الأمن والاستقرار والتنمية فيها. ويدفع ذلك كله الشباب نحو البحث عن فرصهم في بلاد الآخرين لتخسر بلدانهم الأم مواردها البشرية التي لا استغناء عنها في أي عملية نهوض سلمية، تكون في صالح شعوب المنطقة ودولها من دون أي استثناء.
وهذه الأجواء هي حصيلة منطقية لواقع الاستقطاب وعدم الاستقرار الذي يخيّم على العالم بأسره، نتيجة تعارض التوجّهات والحسابات بين القوى الكبرى، لا سيما بين روسيا والولايات المتحدة. إذ تريد الأولى العودة إلى نادي القوى العظمى من البوابة العسكرية من خلال تهديد الأمن العالمي، والتلويح بقدرتها على تفجير الأوضاع في مناطق عدة، منها: أوروبا حيث الحرب الروسية على أوكرانيا المستمرّة منذ نحو عامين تحت اسم "العملية العسكرية الخاصة"، وفي جنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط بطبيعة الحال عبر وجودها الفعلي أو من خلال تحالفها الوظيفي مع النظام الإيراني. هذا في حين أن الثانية تصرّ على الاحتفاط بدور القوة الأكبر اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً على الصعيد الكوني.
وفي سياق ما نحن بصدد تناوله هنا، نرى أن الحرب الإسرائيلية على غزّة بعد العملية التي نفذتها حماس بالتعاون مع "الجهاد الإسلامي" تحت اسم طوفان الأقصى فرضت واقعاً جديداً متعدّد الاحتمالات، وذلك يتوقف على الموقف الدولي العام؛ سيما الغربي ببعديه، الأميركي والأوروبي، والتفاعلات التي ستكون ضمن المجتمع الإسرائيلي نفسه؛ ويُضاف إلى ذلك طبيعة التعامل الفلسطيني مع التحدّي الوجودي الذي يستوجب ارتقاء بالموقف الوطني الفلسطيني ليكون قادراً على مواجهة الضغوط؛ وفي موقع المؤهل لطرح المبادرات التي تضمن حقوق الشعب الفلسطيني، وتراعي، في الوقت ذاته، واقع الاستقطاب الإقليمي والدولي وانعكاساته وتبعاته وأبعاده.

الحرب الإسرائيلية على غزّة فرضت واقعاً جديداً متعدّد الاحتمالات، وذلك يتوقف على الموقف الدولي العام

ومن بين الاحتمالات المتوقعة لمآلات المأساة التي يعاني منها الفلسطينيون، خصوصا الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى في غزة هناك ثلاثة احتمالات رئيسة متوقعة: أولاً، تهدئة الأوضاع تحت شعار إنعاش "حلّ الدولتين" الذي كان في طريقه نحو النسيان والتلاشي في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وهناك اليوم خشية لتجاوزه مجدّداً في حال نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل؛ هذا مع أهمية الأخذ بالاعتبار ضرورة اتخاذ خطوات جادّة ملموسة، حتى يمتلك هذا الحل المطروح المصداقية، ويمكّن الطرف الفلسطيني من التعويل عليه. ويتشخص الاحتمال الثاني في ما يلوّح به رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في محاولة لإنقاذ حكومته من التداعي، وإنقاذ نفسه من المحاكمة والحكم القضائي، وربما الخروج الكامل من الحياة السياسية. ولذلك يلجأ إلى التهديد بمزيد من التدمير، والتهجير، وحتى محاولة إلغاء فكرة وجود قطاع غزّة ضمن الخريطة الجغرافية السياسية الفلسطينية تحت ذريعة محاربة حركة حماس، وإخراجها من دائرة الفعل السياسي الفلسطيني. وقد يتمظهر الاحتمال الثالث في عملية تجميد الوضع بعد التوصل إلى هدنة طويلة سيفسّرها كل طرف انتصاراً له، ويهدّد، خصوصاً من نتنياهو وحكومته، بتفجير الأوضاع في الوقت المناسب.
ومن الملاحظ في هذا المنحى أن الموقف التصعيدي الذي يعتمده نتنياهو يتكامل بهذه الصيغة أو تلك مع الموقف الإيراني الذي يسعى إلى جمع النقاط بغية صرفها لاحقاً على مائدة المفاوضات مع الغرب. ولتحقيق ذلك لجأ النظام الإيراني، ويلجأ، إلى أسلوب تفجير الأوضاع عبر أذرعه في العراق وسورية ولبنان واليمن، الأمر الذي أدّى إلى نشوب أزمة تجارية عالمية، وهدّد استقرار إقليم كردستان العراق الذي يعد أساساً لاستقرار العراق، وبوابته المستقبلية على الاستقرار الإقليمي والدولي. ولعله من المناسب أن يُشار هنا إلى سياسات الإقليم (كردستان العراق) المستقرّة الناضجة من جهة فتح أبوابه أمام سائر المكوّنات المجتمعية العراقية التي تعيش فيه بأمان ووئام؛ كما أنه على علاقة وثيقة مع مختلف التيارات والقوى السياسية العراقية، ويلتزم في تعامله معها سياسة معتدلة هادئة، تتمفصل حول نهج حل الخلافات والإشكالات بالحوارات والتفاهمات، وبعيداً عن الاستقطابات والتفجيرات الإرهابية. كما يرتبط الإقليم، في الوقت ذاته، بعلاقات فاعلة متوازنة مع الدول المحورية، على المستوى الإقليمي والصعيد العالمي. ويصبّ ذلك كله في مصلحة العراق، ومصلحة تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.

الدور القطري في الوساطات ذو تأثير لأنه يخصّ دولة ذات سيادة، تمتلك إمكانات مادية كبيرة، ورؤية مستقبلية

وربما سيكون من المفيد التنويه هنا بأهمية دور إقليم كردستان في ميدان الوساطات وقابلية القيام بمزيد منها؛ وهو الدور الذي يتقاطع، في أوجه عديدة منه، مع الدور القطري النشط في ميدان الوساطات لحلحلة العقد الصعبة. مع ضرورة الإشارة في هذا المجال إلى أن هذا الدور أكثر حيوية وتأثيراً لأنه، في نهاية المطاف، يخصّ دولة ذات سيادة، تمتلك إمكانات مادية كبيرة، ورؤية مستقبلية تمكّنها من توظيف تلك الإمكانات لصالح نهضة شعبها، واستقرار المنطقة، لقناعتها التامة بأن العلاقة بين الموضوعين تضايفية متبادلة التأثير. وفي جميع الأحوال، سيكون التكامل والتفاعل بين الدور القطري ودور إقليم كردستان العراق، وحتى مع الدور العُماني المعهود، في مصلحة تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، فلإقليم كردستان هو الآخر دوره المهم ووزنه على صعيد إمكانية التواصل والتوسّط، بحكم علاقاته القديمة، وفي مختلف المراحل، مع دول الجوار المحورية. ويُشار هنا بصورة أساسية إلى تركيا وإيران ودول الخليج لا سيما السعودية والإمارات وقطر نفسها، والأردن، وغيرها. وقد قام ممثلو الإقليم في الحكومة العراقية بدور حيوي للتقريب بين وجهات نظر الفرقاء العراقيين؛ وكانت لهم جهودٌ لافتة من ناحية الوساطات الإقليمية، خصوصاً بين إيران والسعودية. وهم مؤهلون لإنجاز عمل إيجابي بين تركيا وجوارها العربي والكردي، وبينها وبين كردها للوصول إلى حل عادل مقبول للقضية الكردية ضمن إطار الوحدة الجغرافية والسياسية للبلد، وهو الأمر الذي سيكون لمصلحة الجميع، وفي مقدمتهم تركيا نفسها التي ستتفرّغ لتجاوز مشكلاتها الاقتصادية، وتتحوّل، بناء على مؤهلاتها، إلى رافعة تنموية تساهم مع القوى الإقليمية الرئيسة الأخرى في نهضة المنطقة وازدهارها؛ وسيساهم ذلك كله في ضمان مستقبل زاهر لأجيالنا المقبلة.

أثبتت التجارب كلها منذ ما يربو على القرن أن النفخ في رماد الماضي لن يؤدي سوى إلى حرائق جديدة

منطقتنا في حاجة إلى حوار عقلاني، يقطع مع نزعات التجييش الشعاراتية والشحن المذهبي الطائفي والقومية، وسيؤدّي ذلك كله، في حال تحقّقه، إلى تمكّن أطراف هذا الحوار من معالجة العقد المزمنة بعقلية مفتوحة إيجابية، تتقبّل الآخر المختلف، وتهيئ السبل للدخول في حوارات بغية التوصل إلى تفاهماتٍ معه؛ تكون مقدّمة لبلورة معالم واقع جديد يقوم على أساس احترام سيادة مجتمعات ودول المنطقة، وعدم التدخّل في شؤونها، واستثمار الموارد الطبيعة والبشرية بحكمة وعقلانية، وضمان توظيفها بصورة متوازنة لمصلحة تطوير الميادين الإنتاجية والثقافية والحضارية، وبالمعنى الأوسع لهذه المصطلحات. 
قطعت أوروبا مع نزاعاتها المذهبية، وحدّدت العلاقة بين الدولة والدين على أساس الاحترام المبتادل، وضمان حرية التعبير من دون أي مساس بمعتقدات المواطنين التي تُمارس هي الآخرى بحرية، ويراعي كل طرفٍ احترام معتقدات الطرف الآخر. كما تجاوزت أوروبا واقع التعصّب القومي الذي كان السبب في اندلاع حربين عالميتين، كلفتا شعوب القارّة الملايين من الضحايا، وتمكّنت من الوصول إلى اتحاد عام يجمع بين شعوب غرب القارّة وشرقها، وهو اتحاد يجدّد اليوم نفسه رغم كل المخاطر التي تهدّده من أصحاب الأحلام الإمبراطورية والنزعات القومية المتطرفة.
ومنطقتنا هي الأخرى في حاجة ماسّة إلى حلول إبداعية عقلانية شجاعة، تضع حدّاً للحروب والآلام والمآسي، وترسّخ في أذهان الشباب ثقافة الحياة المتفائلة المنتجة، لا ثقافة الموت العدمية؛ ويستوجب ذلك كله الحوار والتفاهم، وبلورة معالم فكرة مؤتمر إقليمي دولي جامع يكون منصّة لمناقشة جميع القضايا، والتمعّن في كل الهواجس؛ وإيجاد المناخات القابلة لتعزيز الثقة بين مختلف الأطراف المتنازعة، وتكريس الاطمئنان المتبادل المتفاعل بينها عن طريق مشاريع تنموية ترنو نحو المستقبل، وتتجاوز مخاطر النكوص إلى الماضي المتخيّل، فقد أثبتت التجارب كلها منذ ما يربو على القرن أن النفخ في رماد الماضي لن يؤدي سوى إلى حرائق جديدة تلتهم الكثير من إمكانات المنطقة الهائلة، وهي تؤهلها لأن تكون من أكثر مناطق العالم ازدهاراً وتقدّماً على الصعيد الاقتصادي، وأغناها من جهة التنوّع الثقافي والحضاري.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا