ثورة العلم التي أسقطت الإلحاد

ثورة العلم التي أسقطت الإلحاد

23 اغسطس 2022

(شوقي شمعون)

+ الخط -

ولد الكاتب المصري مصطفى محمود في شبين الكوم في محافظة المنوفية، وفي البيئة الريفية المصرية توجّه، بحسب رغبة أبيه وثقافة الأسرة المصرية، إلى المسجد، وهو الدعامة الأولى بعد الأسرة لتأسيس القيم الفردية، أكانت قيم سلوك أو معالم إيمان، ولذلك تمثّل رسالة المسجد زاوية حيوية للغاية، في الانطباع الأول لثقافة الطفل عن الإسلام، وهنا خطورة الأمر، فبحسب عقلية منهج الشيخ وأخلاقيته ومصداقيته، قد تنطبع صورة الطفل الأولى عن الإسلام، وتبقى صامتةً حتى تُعزّز أو تُصحّح أو تنقض.
توجه مصطفى الفتى الذي كان عقله يتّقد في البحث مبكّراً، إلى المسجد القريب، والذي يحتضن فيه الشيخ درسه الدوري، وحضور أخلاق الضمير والصدق فيه هو قاعدة تأسيس مهمة في حياة الفتيان، لكن الشيخ أخذ مصطفى محمود الذي كان يتساءل مبكّراً عن الحياة والوجود إلى عالم آخر، فجمع الفتيان وتلى عليهم أوردة حجاب، زعم أنها تطرد الصراصير من المنازل التي كانت تعاني من انتشار الحشرات.
منظومة طويلة من المفردات التي جمعت إلى آيات الكتاب العزيز أحرفا وطلاسم غير معروفة، شدّد الشيخ على تعليقها في منازل الطلاب، وسوف يفرّ الصراصير من ذلك المنزل، بهرت الفكرة مصطفى محمود، وأخذها على محمل الجد، ونسخها جيداً ثم علقها في منزله، وإذا بالصراصير تتصاعد ولم تسقط إلا مزاعم الواعظ، كانت تلك اللحظة، بحسب مصطفى محمود، هي ركيزة الجحود بالدين، فأعلن حينها وهو ابن 12 من عمره، تأسيس "جمعية الكفّار"، وتعليق منشورات ضد الدين، حتى وقع في أيديهم فعاقبوه.

المهم في تجربة مصطفى محمود مفهوم الإلحاد النفسي، الذي ينتشر بقوة في الوطن العربي

في حكاية طفولة مصطفى محمود معان كثيرة، سواء في قصة الإسلام الممتحن، بروايات أو خرافات، أو لزوميات لم يُلزم بها الإسلام، وخصوصا في ما يتعلق بسنن الله الكونية في الحياة، والسببية التي شرعها للخلق، من دون أن يتعارض ذلك مع مفهوم البركة أو التوكل، أو التسليم للخالق المطلق الذي أبدع الوجود وتفصيله، ولكنه وضع موازين دقيقة في تصميم الكون وفي فطرة الجسد، تهدي البشرية إلى قانون الطبيعة التي حدّد مسارها، فهي تسير بدقة متناهية كطبيعة مؤمنة، وليست مصادفة مصمتة تفسرها نظريات الإلحاد.
أما الجانب الثاني فهو الموقف العاطفي والنفسي الذي يُطبق على نفسية الشاب، ثم يوجّهه فكرياً، يحرّك جذر إلحاده غضبه من ذلك الشيخ الواعظ، أو المتديّن تديناً كاذباً، وهو يُمثّل سلوكاً فاسداً أخلاقياً أو نموذجاً للجشع والاستثمار المادي، فتهوي هذه الصورة على وجدان الشاب، ويُبرّر رفضه الإسلام بحجة علمية الإلحاد، ولا يوجد لقاعدة الإلحاد الكبرى أي حقيقة علمية حين التفكيك والتفكر الرشيد. المهم هنا في تجربة مصطفى محمود مفهوم الإلحاد النفسي، الذي ينتشر بقوة في الوطن العربي.
شكّلت تلك المواجهة جذر القضية في طرحه أسئلة الشكّ والإيمان، وبالتالي، أبحرت رحلته الأولى في مزيج الشك الأقرب إلى الإلحاد. وعلى الرغم من التحدّيات التي واجهته في عهد عبد الناصر، والتي بحسب سرديته، استخدمها في حصاره وقمعه الفكري الشديد له، لا لأهمية الدين لدى الرئيس، ولكن لكون محمود يرفض أن يكون في نادي المثقفين الرئاسي، وخصوصا أنه كانت لعرّاب هذا النادي، محمد حسنين هيكل، حكاية مهمة في مذكّرات محمود.
ورغم أن مساحة الكتابة أعيدت لمحمود، بعدما توسّط له نادي المثقفين الرئاسي نفسه، إلا أنهُ قرّر أن يمضي بقوة في البحث عن قصة الخلق الحقيقية. بدأ حينها يقترب أكثر، وهو الطبيب الذي انشغل بالتشريح، إلى الدرجة التي حمل معها جثة إلى منزله، فهو الآن يتفكّر وجهاً لوجه في قصة الوجود والخلق، ثم أخذ يُبحر إلى مناطق العالم، بدأً من الجنوب وقبائل أفريقيا الوثنية، وهو يدير السؤال الكبير في ذاته.

تعامل مصطفى محمود أخلاقياً وعلمياً مع فكرة الله المعبود في عالم الوجود، الذي يؤول إليه الناس في عالم الخلود

أين هو ذلك الإله الذي بحثت عنه قبائل أفريقيا، وصنعت تصوّراً عنه، وكيف أن فكرة الله الخالق، ذي الربوبية والألوهية، سهلة الإدراك والاستشعار، قوية الفكرة معزّزة بدلائل العلم في خريطة الجسد والكون، كان مصطفى محمود أيضاً لا يزال يُواجَه من جماعاتٍ دينية، وبعض مشايخ الأزهر الذين أصرّوا على دورات التذكير بتكفيره، رغم أنه اليوم يتّخذ مساراً علمياً وجدلياً للوصول إلى اليقين الكبير.
نضجت الفكرة وأصبح العلم رهان التحدّي في الإيمان اليقيني، وباتت مادة برنامجه العلم والإيمان تتربع في الشارع العربي، فزاد التحدّي عند محمود، الذي أصّر أن يوسّع برنامجه ليكون قاعدة متفاعلة متجدّدة مع دلائل الإيمان، كانت هذه الرحلة الكبرى في عمره، تسليم للإسلام الفارق في حياة الإنسانية، لسبب بسيط، أن الإسلام وريث النبوات الصادقة التي فسّرت ما يغيب عن البشرية من العالم الآخر، ويربط الجميع بوحدة إنسانية توحد الخالق، وأن لحظة الأرض التاريخية وصلت إليها الرسالة محمية النص والدلالة، فالحكمة هنا كانت ألا تزوّر نبوة محمد ﷺ ولا كتابها المقدّس القرآن الكريم، وإنما تُجدّد ما اندرس من وحدة النبوات، وتؤسّس لبعث الإيمان الأخير في حياة العالم.
لقد أثر اليقين في منبر مصطفى محمود من خلال تعامله مع ثروته التي آلت إليه في حقوق البث أو المؤلفات، وهي هنا تتجسّد بقوة في تحويل ثروته للتعامل مع فكرة الإيمان المقدّس في نفسه، والنور الذي بات يغشى قلبه ويمتلك عليه فؤاده، وأن تخصيص هذه الثروة لفقراء مصر ومعدميها، ومحاولة دعم مشاريع تنهض بها أرياف مصر، ظلت تُحاصر من النظام السياسي المتسائل، (أيه فايدة مصطفى من رعاية الفقراء والأيتام).
ولماذا تتحوّل مؤسسته الخيرية إلى دولة رعاية طبية تطوّعية، فقد كان من الصعب على المؤسّسة الأمنية وحتى المنابر الدينية التي لم تعش لحظة الحقيقة، أن مصطفى محمود تعامل أخلاقياً وعلمياً مع فكرة الله المعبود في عالم الوجود، الذي يؤول إليه الناس في عالم الخلود.