تل أبيب الرافضة الوساطات تتوسّط في أوكرانيا

تل أبيب الرافضة الوساطات تتوسّط في أوكرانيا

12 مارس 2022
+ الخط -

للدولة العبرية سجلٌ حافلٌ في التسبب بالأزمات، وما ظلت تسُمى عقودا أزمة الشرق الأوسط، فقد ارتبط باحتلالها أراضي فلسطينية وعربية. وإذ أبرمت معاهدات سلام مع دول عربية، فإنها ما زالت ترفض التوصل إلى حل سياسي مع الضحية الأولى والكبرى لتلك الأزمة، وهي شعب فلسطين. لهذا، بدا غريبا أن ينشط رئيس حكومة الاحتلال، نتفالي بينت، في التوسّط بين موسكو وكييف، إذ تتفادى تل أبيب الاحتكام إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وما انفكّت تحتكم للقوة الغاشمة، في سعي محموم إلى طي صفحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لدفع الطرف الآخر إلى الاستسلام لمشاريعها التوسعية، فهل يمكن لمن يحمل مثل هذا الإرث الأسود أن ينهض بدور ما في إحلال السلم والأمن في أي بقعة من العالم؟. لقد شاءت الظروف القاهرة والشاذة أن تقبل القيادة الأوكرانية بهذه الوساطة من أجل تشكيل أوسع كتلة ضاغطة على القائمين بالغزو. وقد رحّب هؤلاء في موسكو بدورهم بهذا الجهد، بأمل تفكيك جبهة الغرب المناوئة للغزو. وكما كان مقدّرا، لا تعرض موسكو على كييف سوى تفكيك الدولة الأوكرانية، والقبول باجتزاء أراضيها وتعديل دستورها لإسقاط الانتماء إلى أوروبا بما يجعل المفاوضات عقيمة، وخصوصا أنها مفاوضات تجرى تحت ضغط العمليات العسكرية التي تطاول المباني السكنية والمسستشفيات والمخابز، وذلك في تكرار للسيناريو الروسي المشين في سورية منذ سبتمبر/ أيلول 2015.

وإذ أخفقت جهودٌ بذلها كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز مع الرئيس فلاديمير بوتين، فقد كان من الطبيعي أن تلقى تحرّكات بينت المصير نفسه، وذلك مع تشكّك القيادة الأوكرانية بنزاهة هذه الوساطة وجدّيتها، رغم الترحيب الاضطراري بها، فقبل أن تباشر موسكو غزوها الأراضي الأوكرانية، كانت تل أبيب تتحادث مع موسكو من أجل تأمين ممرات آمنة لإجلاء رعاياها في حال اندلاع الحرب، وهو ما أثار احتجاج كييف التي كانت تضع منع العدوان في مقدمة أولوياتها، لا أن يسعى طرفٌ ما، وفي وقت مبكر، لتأمين رعاياه.

تصر تل أبيب على القفز عن الحقوق الفلسطينية، وقد ناصبت تل أبيب غالبية دول أوروبا العداء على مواقف تلك الدول إزاء الاستيطان غير المشروع

وبعد نحو أسبوع على بدء الغزو الروسي، ومع توجّه أوكرانيين، عبر هنغاريا وبولندا، إلى إسرائيل هربا من النيران الروسية، امتنعت تل أبيب عن استقبالهم، بعدما طالبتهم بتقديم ضماناتٍ مالية، وجرى إرغامهم على العودة من حيث أتوا، ما أثار سخط السفير الأوكراني في تل أبيب يفغيني كورنيتشوك، الذي قال، في مؤتمر صحافي يوم الأول من مارس/ آذار الجاري: لقد جاء اللاجئون الأوكرانيون طلبا للمساعدة، لم يأتوا للعمل، إنهم فارّون من الحرب .. وما أن مضت بضعة أيام بعد طرد هؤلاء اللاجئين، استقبلت تل أبيب نحو 300 لاجئ أوكراني يهودي، في خطوةٍ تمييزيةٍ صارخة، فيما تتواتر الأنباء عن استعداداتٍ تجرى لإجلاء آلاف الأوكرانيين اليهود (200 ألف) وتمكينهم من التوجه إلى تل أبيب، وتوجيههم للاستيطان في الأراضي المحتلة، وبحيث يتحولون، وفق المصير الذي يهيئه الإسرائيليون لهم، من ضحايا لحرب ظالمة إلى مغتصبين أرض الآخرين.

إنها واحدةٌ من مهازل عالم السياسة أن تتنكّب تل أبيب للعب دور الوساطة، بينما تنكر من جانبها على الآخرين حق التوسط في أزمة تسببت هي، وما زالت، في حدوثها وتفاقمها، أزمة احتلال الأراضي الفلسطينية وأزمة إحلال السلام في المنطقة، إذ تصرّ تل أبيب على القفز عن الحقوق الفلسطينية، وقد ناصبت غالبية دول أوروبا العداء على مواقفها إزاء الاستيطان غير المشروع، وحيال إغلاق الطرق أمام الحلول السياسية للصراع. وما زالت المواقف الأوروبية المندّدة بالسلوك الإسرائيلي حيال المقادسة، ساكني حي الشيخ جرّاح، في الأذهان. وأبعد من ذلك، ترفض دولة الاحتلال "توسّط" إدارة الرئيس جو بايدن لدعم إحياء المسار التفاوضي وصولا إلى حل الدولتين، وتعتبر أن "الخطر الإيراني التحدّي الوحيد في المنطقة".

وقبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت منظمة العفو الدولية قد صنّفت إسرائيل دولة فصل عنصري. وبدلا من أن تعيد النظر في سلوكها العنصري، فقد شنّت تل أبيب حملات محمومة ضد هذه المنظمة الدولية، العريقة والموثوقة، على جرأتها في تسمية الأشياء بأسمائها. وحتى بعد بدء مسلسل الغزو وانشداد الأنظار والأذهان إلى هذه التطورات الدامية بحق شعب مسالم، ارتفعت هنا وهناك أصوات نزيهة يقارن أصحابها بين ما يجري في أوكرانيا وما يحدث على الأرض الفلسطينية المحتلة، فقد طالب النائب الأيرلندي غاري غانون بإنهاء نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، في كلمة ألقاها أمام برلمان بلاده، خلال جلسة جرى التصويت فيها على فرض عقوبات على روسيا بسبب غزوها أوكرانيا، مطلع مارس/ آذار الجاري، مشيراً إلى أنه لا اختلاف بين ما تمارسه روسيا بحق الشعب الأوكراني وما ترتكبه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. واستعرض النائب الأيرلندي جملة انتهاكات يرتكبها الاحتلال يومياً، سواء في ما يتعلق ببناء مزيد من المستوطنات غير القانونية، أو الإجلاء القسري للشعب الفلسطيني وعمليات الهدم لمنازلهم.

من مهازل عالم السياسة أن تتنكّب تل أبيب للعب دور الوساطة، بينما تنكر على الآخرين حق التوسط في أزمة تسببت هي في حدوثها

وفي 26 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، قالت النائبة البريطانية عن حزب العمال جولي إليوت إن ما يحدث في أوكرانيا من غزو روسي هو مثل ما يحدث في الأراضي المحتلة في فلسطين. وقد أصرّت على أن القانون الدولي "ملائم" في كلتا الحالتين، فطالبت بضغوط على الحكومة (البريطانية) للنظر في الاعتراف بدولة فلسطين جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، سعياً نحو حل الدولتين للصراع في المنطقة. وقالت للنواب: "قلبي يخاطب الشعب الأوكراني. نحن بحق نتحدّث عن القانون الدولي. في الحقيقة، لقد استمعت إلى أماندا ميلينغ، وزيرة شؤون الشرق الأوسط، عن الأهمية الحيوية لسيادة الدول. عندما يسمع الفلسطينيون ذلك، فكيف يجب أن يشعروا؟". ودعت إليوت إلى "حظر كامل وشامل للمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية" في الضفة الغربية، وذكرت أن الاعتراف بفلسطين هو "الحد الأدنى" لما يتعيّن أن تفعله المملكة المتحدة.

أجل، إنها أصوات قليلة تلك التي ترتفع، لكنها تنجح في كسر نمطية تجاهل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في هذه الآونة، فيما الصوت الفلسطيني الرسمي والفصائلي يكتنفه الارتباك. وبالكاد تصل رسالة تعاطف وتضامن مع شعب أوكرانيا، وكان من أوضح مظاهرها ملتقى لمجموعة من الفلسطينيين في حيفا، القدس، رام الله، غزة وبلدان اللجوء والشتات، دان في بيان، الأربعاء 9 مارس/ آذار الجاري، الغزو الروسي لأوكرانيا، داعياً إلى بذل الجهود لوضع حدّ لهذه المحنة بوقف الحرب.