النزوع إلی الزيدية في اللاهوت السياسي الشيعي

النزوع إلی الزيدية في اللاهوت السياسي الشيعي

08 مارس 2021

(محمد بوزرجي)

+ الخط -

منذ بداياتها الأولى، كانت الثورة الإسلامية الإيرانية مليئةً بالمفاجآت والمنعطفات اللاهوتية، والحيل الفقهية. وبعد أربعة عقود، لا يزال الشذوذ المحيّر سمة مستمرة لها، على الأقل في عالم اللاهوت السياسي. وفي الواقع، كان العمود النظري التأسيسي للثورة، أي نظرية ولاية الفقيه، منفصلا عن النظرة التقليدية الهادئة غير السياسية وعمرها 13 قرنًا. بالإضافة إلى ذلك، اعتبر المراقبون الغربيون من الخارج، في البداية، الشيعية مساويةً للحماس الثوري، النشاط السياسي، الجهاد والاستشهاد. تكونت هذه الرؤية، في غالب الظن، إثر الاستقبال واسع النطاق للتفسيرات الثورية التي قدّمها علي شريعتي للشيعية، وبدرجة أقل منه الخميني. شكك باحثون قليلون في الصحة التاريخية لهذه الرؤية، وتم قمع بعض من عارضوا ذلك بوحشية.
ألقی كل من شريعتي والخميني الضوء علی النشاط السياسي للنبي محمد (ص) والإمام علي بن أبي طالب وانتفاضة الإمام الحسين ضد يزيد الخليفة الأموي، واعتبرا هذه الإجراءات مثالا يلزم أن تحتذي به الطائفة الشيعية. على أية حال، عمر النبي محمد وعلي والحسين لا يشكل سوى جزء بسيط من تاريخ النجاة الديني للشيعة، والذي يمتد قرابة القرنين ونصف القرن. أما حياة الأئمة العشرة الآخرين، فهو كل شيء، ما عدا أن يكون نموذجاً للنشاط السياسي. وبالفعل، بعد مقتل الحسين عام 680، كان أسلوب الامتناع عن العمل السياسي المنهج الذي نوقش بوضوح، وتبنّاه عمداً أئمة الشيعة. ولجعل هذه النقطة أكثر وضوحًا، انقسم الشيعة، في الغالب، إلى عشرات الفرق، وذلك بسبب خلافهم بشأن الموقف من النشاط السياسي. امتنع الشيعة الاثنا عشرية امتناعاً قطعياً عن الانتفاضة ضد الحكم السني (لا يزالون يعتبرونه جائراً)، وبدلاً من ذلك ركزوا على الخلاص الفردي والنهوض بالمعرفة الدينية. في المقابل، ذهبت الطائفة الأكثر ثورية، الزيدية، إلی أن "القیام ضد الحكام السنة الحاليين" شرط أساسي لمنصب الإمام. وكما هو الحال، أصبح تاريخهم ملفوفًا في ثوراتٍ دمويةٍ متكرّرة. من الواضح أن القارئ قد يتفق مع الكاتب أن الزيدية تفتقر إلی رؤية استراتيجية؛ لأنهم لا يشكلون سوى نصف بالمائة من سكان العالم المسلمين مقارنة بحوالي 15% من الاثني عشرية.
استخدم الثوار الإيرانيون الحجج الدينية على نطاق واسع، لتعبئة الجماهير وإضفاء الشرعية على حكمهم. لا يوجد سبب للاعتقاد بأنهم كانوا حتى على وعي بتقمصهم دور الزيديين. من الأفضل أن نفترض أنهم لم يتفاعلوا إلا مع مطلب مجتمعي، يطالب بتطبيق مذهب الشيعة في ساحة السياسة. ولذا غيّروا اتجاه العقيدة الشيعية التقليدية والمتبعة، ليوافق المنحی السياسي الغالب، وعلى الأرجح من غير قصد. ونعلم أن تسييس الشيعة كان إجراءً مستمرًا منذ الصفويين، فمهما كانت العقلية وراء هذا التغيير النظري، فإن النتيجة هي دين سياسي قريب جدًا من الزيدية، بدلاً من الشيعة الاثني عشرية.

أبدع الخميني نظرية الحكم الإسلامي في زمن غيبة الإمام المعصوم، ودخل ساحة المعارضة السياسية الدموية للنظام المستقرّ ميدانياً

لقرون، لا تسمح الشيعة الاثنا عشرية بالخروج المسلّح ضد الحاكم المسيطر، وبالقيام لتنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن الشيعية الزيدية (أتباع زيد بن علي) يعتبرون الانتفاضة المسلحة ضد الحكام الظلمة من أحد أهم شروط الإمام. ولهاتين الرؤيتين المختلفتين جذور تمتد إلی الخلاف التاريخي ما بين الإمامين الخامس والسادس محمد الباقر وجعفر الصادق من جهة، وزيد ابن الإمام الرابع للشيعة (علي بن الحسين) من جهة أخری، فيما يخص القيام ضد الأمويين. فكما نعلم، نهی الإمامان الخامس والسادس للشيعة الإمامية (محمد الباقر وجعفر الصادق) زيداً عن الثورة مرّة تلو المرّة، وأنذراه بأن مصيره ليس إلا الموت. على الرغم من هذه الوصايا، ثار زيد علی الأمويين، ولقي مصرعه. إثر هذه الخلافات في الرؤی، أعلن الشيعة الجهادية زيداً بن علي إماماً لهم، وكوّنوا الفرقة الزيدية أخيراً، وبقي معارضوهم حول جعفر الصادق وفيما بعد أبنائه، وصاروا اثني عشرية. أصبحت هذه الميزة، أي معارضة النشاط السياسي والجهاد ضد القوة الحاكمة، أحد المقومات النظرية والتطبيقية للشيعة الاثني عشرية حتی القرن الرابع عشر الهجري، ففي هذا القرن، جاء آية الله الخميني ليغير هذه السنة العريقة، فأبدع نظرية الحكم الإسلامي في زمن غيبة الإمام المعصوم، ودخل ساحة المعارضة السياسية الدموية للنظام المستقرّ ميدانياً. وبعد إطاحة هذا النظام تقلد هو زمام الحكم. ويكتسب هذا الاتجاه المشترك، نظرباً وعملياً، أهميته من أن العداوة كانت تسود العلاقات بين الإمامية والزيدية في القرون الأولية لتاريخ الإسلام. ومن الطريف أن الزيدية تعتبر مماثلة للنواصب أحياناً في الروايات الإمامية، وقد تعرّضوا للّعن والطعن. ومن جانب آخر، كتب کبار شخصيات الزيدية آثاراً في رفض المدرسة الجعفرية، واعتبروا المنتمين إليها من أهل النار.
والغريب أنه، وخلافاً للأقوال الموجودة في بعض آثار علماء الإمامية في بطلان الزيدية، أشاد آية الله خامنئي، في محاضراته الدراسية الدينية العليا عام 2016، بزيد قائلاً ما ترجمته كما يلي: "إن زيداً، هذه الشخصية الكريمة التي تعد من أعلی الشخصيات المنتمية إلی آل النبي (ص)، من الشهداء المرموقين للعترة الطيبة. هو شخصية عظيمة للغاية وإنسان رائع. قد وقع أشخاص في الخطأ بشأن هذا الشهيد العظيم القدر، زعماً بأنه سار بخروجه مساراً مخالفاً لطريق الأئمة. وينقلون حديثاً للإمام الباقر (ع) بأنه منع زيداً من القيام. وهذه الرواية لو كانت صحيحة، وهي محل النقاش، فزيد قبِل توصية الإمام، ولم يخرج ثائراً في زمنه. كانت ثورته زمن الإمام الصادق (ع). إذا قرأ الإنسان سيرته، رأی أنه من أكثر وجوه أهل البيت (ع) عظمة وأنورهم".
كما أمر خامنئي بتجديد مضجع أبي محمد الحسن الأطروش، الشهير بناصر الحق (من كبار الزيدية) في مدينة آمل الإيرانية. وحسب التقارير المنتشرة في مصادر الأنباء الإيرانية، تم هذا الأمر بطلب من الشيعية الزيدية في اليمن. وقد انعقد المؤتمر الدولي لتكريم ناصر الحق في مدينة آمل، بمشاركة كل من محسن قمي مساعد القائد في شؤون العلاقات الدولية، وآية الله أختري الأمين العام لمجمع أهل البيت العالمي، وآية الله الطبرسي ممثل ولي الفقية في محافظة مازندران. يبدو من هذه القرائن أن الموضوع وراء تشابهات محضة.

ربما ينجم سبب إيثار الزيدية علی الإسماعيلية أولاً عن النزعة غير السياسية لهم علی الأقل في القرون الأخيرة، مقارنة بالنزعة الثورية للزيدية

إضافة إلی ذلك، وإن لم يذكر اسم من الزيدية في المحضر التفصيلي لمداولات مجلس خبراء الدستور عام 1980 ومذكرة الدستور الإيراني، ولم يكن نقاشٌ بشأنها، لكنه في الصياغة النهائية للدستور اعتبرت الزيدية من المذاهب الشرعية، بجانب المدارس الأربع لأهل السنة. يقال إن آية الله شريعتمداري احتج علی هذا الأمر، قائلاً لماذا تم الاعتراف بالزيدية في الدستور، ولم يُذكر شيء عن الإسماعيلية، مع أن الأخير أقرب بكثير منها إلی التشيع؟
الزيدية والإسماعيلية
ربما يرجع قسم من هذا الاتجاه المشترك إلی استقبال الزيدية الثورة الإسلامية، خلافاً للإسماعيلية التي كانت لها علاقات حسنة مع الحكم البهلوي. وبالطبع لم تول الحكومة ما بعد الثورة اهتماماً بهم. جاء ممثل الزيدية إلی إيران في بداية انتصار الثورة، واستعمل لفظة "الإمام" لآية الله الخميني، والتي روّجها أبو الحسن بني صدر (أول رئيس لإيران بعد الثورة الإيرانية) سابقاً. لكن النقطة المشتركة ما بين الخميني والزيدية أن الأخير يعتقد أن الإمام يجب أن يكون حاضراً (وليس غائباً)، وقام بثورة مسلحة، ويكون "سيداً"، أي من سلالة الأئمة، وقد اجتمعت كلها في الخميني. كما نعرف أن بدر الدين الحوثي قائد جماعة أنصار الله ومؤسسها بذل جهوداً كثيرة لمكافحة التعاليم الوهابية في اليمن، وكان ينوي أن يقرّب الزيدية إلی الإمامية أكثر فأكثر. يقال إن طقوسا دينية كثيرة للإمامية، وخصوصا طرازها الإيراني، دخلت إلی الطقوس الدينية للحوثيين في العقد الأخير، منها: إقامة العزاء للإمام الحسين، وتكريم بعض الأعياد المذهبية للشيعة.
هذا الانسجام مع الزيدية هو في الجانب المقابل لتعامل الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع الإسماعيلية، وهم قريبون إلی الإمامية من مختلف المناحي؛ منها: في نفي شرعية الخليفتين الأوليين (أبي بكر وعمر)، الاعتقاد بالمكانة الباطنية التكوينية والموروثة للإمام، علم الإمام بالغيب، عصمة الإمام عن الذنب والخطأ، أهمية التقية. نعرف أن ممثل الإسماعيلية لم يُقبل حتی في مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية. ربما ينجم سبب إيثار الزيدية علی الإسماعيلية أولاً عن النزعة غير السياسية لهم علی الأقل في القرون الأخيرة، مقارنة بالنزعة الثورية للزيدية. وثانياً عدم إيلائهم الاهتمام بالفقه، والذي أدّی، أحياناً، إلی تعطيل الشريعة. وقسم آخر من عدم اهتمام التشيع الثوري بالإسماعيلية، خلافاً للزيدية، ينشأ من أن تاريخ الإسماعيلية بأبعادها الباطنية والصوفية قد امتزج بالثقافة الإيرانية واللغة الفارسية امتزاجاً يمكن أن يكون بديلا جذّاباً وقوياً لأيديولوجية التشيع الثوري، وهو بديل منزّه عن تشوهات الفقه المهتم بالظواهر ومبدع لمصادر صوفية غنية باللغة الفارسية. يبدو أن وجود هذه الطاقة الكامنة في التيارات الصوفية الإيرانية جعلت الجمهورية الإسلامية تعتبرها خطراً لها. ويُذكر أن مؤسسي اللاهوت والفلسفة الإسماعيلية إيرانيون باستثناء القاضي نعمان، لكن الزيدية لم تكن تتمتع بهذه الجاذبية لقربهم من أهل السنة، وكذلك عدم صلة عميقة بينهم وبين الثقافة الإيرانية. مع هذا، تستفيد الجمهورية الإسلامية من كلتا الفئتين في سياستها الخارجية: من العلويين المقرّبين إلی الإسماعيلية في سورية والزيدية في اليمن.

شَبَه غريب بين الانتقادات بشأن السكوت أمام الحاكم الجائر وانتقادات الخميني رجال الدين التقليديين في زمن الحكم البهلوي، معبراً عنهم باللاجئين إلی الراحة

إضافة إلی هذا، السلوك السياسي للإمام الصادق، وهو الامتناع عن النشاط السياسي، أحدث إشكالية نظرية جوهرية للشيعة الثورية، ما جعلهم يحاولون دائماً تبرير إعراضه. قال مرتضی مطهري بصراحة: "حدثت في زمانه حالة أدّت إلی نشاط جميع من لهم طموح إلی الحكومة والخلافة، إلا الإمام الصادق، حيث نأی بنفسه عنها... وبشكل عام، هذا الموضوع واضح جداً أن الإمام الصادق نحّی نفسه عن تصدي أمر الحكومة والخلافة تماماً، ولم يكن هناك أي إجراء يدلّ علی رغبة الإمام في تقلد منصب الزعامة". لم يقبل الإمام السادس للشيعة دعوة أي من المعارضين للخروج السياسي، فضلاً عن أنه حذّر أنصاره من الالتحاق به؛ سواء ثورة محمد النفس الزكية (يعتبر أنصاره إعراض الإمام السادس عنه بسبب حسد الإمام له) أو أبي سلمة الخلال أو زيد بن علي أو أبي مسلم الخراساني. ولم يدعم جعفر الصادق نظرياً دعاة الجهاد ضد الأمويين، ولا أرسل أصحابه لمساعدتهم، ولا أنفق من أمواله وأموال شيعته في هذه الأنشطة السياسية. إن تفهم انشقاق الزيدية عن الإمامية من هذه الناحية يحتوي علی نقاط طريفة في ما يتعلق بالشيعة الثورية اليوم.
لم يتسامح الزيديون مع هذا المنهج، وبدأوا حملة تشويه ضد الإمام. کتب علي بن محمد عبیدالله العباسیِ العلوي من کبار العلماء الزیدیة في "سیرة الهادي إلی الحق" في شروط الإمامة: "فمن جلس منهم في بیته وأغلق علیه بابه وأرخی علیه ستره، وجرت علیه أحكام الظالمین، ولم یغیر في نفسه إذا ظُلم، ولم یأمر بمعروف ولم ینه عن منكر، وأخذ أموال الله فأکل بها الطیبات، ولبس بها لین الثیاب، والفقراء والمساکین وراء بابه عراةً جیاعاً مظلومین مغصوبین حقوقهم، فمن کان علی هذه الصفة، فلیس بإمام حق، ولكنه إمامُ هویً وفسق" (ص. 28)
هناك شبه غريب بين الانتقادات بشأن السكوت أمام الحاكم الجائر وانتقادات الخميني رجال الدين التقليديين في زمن الحكم البهلوي، معبراً عنهم باللاجئين إلی الراحة. وخلافاً لتقاليد الإمامية، وامتداداً للمفاهيم الزيدية، أصبحت الشهادة والجهاد الدالين الجوهريين لمنظومة آية الله الخميني الفكرية. ففي رسالته الموجهة إلى رجال الدين عام 1988، عندما أراد الإشادة بهم، ركّز علی الشهادة والجهاد، بدل التركيز علی دورهم في التعليم والتعلم وتهذيب الأخلاق. تشهد الجملة الثانية للرسالة بوضوح علی الدور الجوهري للملحمة والثورة والعمل السياسي، بدل الصمت وانتظار القائم والامتناع عن تأسيس الحكم: "سلام علی حملة أمانة الوحي وحاملي رسالة الحرس الشهداء الذين حملوا مكونات العظمة والاعتزاز للثورة الإسلامية علی أكتاف التزامهم المخضب والدامي. سلام علی رجال الدين الخالدين الذين خلقوا الملاحم وسطروا آثارهم وسيرتهم بدم الشهادة وجوهر الدم، وجعلوا من شمعة حياتهم درة يتيمة من علی منبر الهداية والوعظ والخطابة الموجّهة إلی الناس. لله درّ المستشهدين من رجال الدين وطلاب العلوم الدينية فخراً وتقديراً! فهم قطعوا أواصر التعلق بالدراسة والمدرسة لدی معمعان الحرب، وفكوا عقال الآمال الدنيوية عن أرجل حقيقة العلم، وراحوا إلی ضيافة أهل العرش خفافاً، وقالوا شعر الحضور في محفل الملكوتيين". كذلك يری الخميني أن أذكار الصوفيين المستمرة وأدعية أسحار أهل العبادة ليست كلها إلا تمني الشهادة. وعبارات الخميني في نقد رجال الدين التقليديين لاذعة وحادّة جداً، ويذكّر بروح الثورة لدی الزيدية. يطلق علی رجال الدين غير السياسيين كلمات مثل المتحجّرين، المتقدسين الحُمق، الحيّات الرقطاء، المروجين للإسلام الأميركي وأعداء رسول الله. وإن كان الدور الذي يراه الخميني للحاكم نظير القراءة الإسماعيلية للإمام (وهو القادر علی تغيير الأحكام الأولية مثل الصلاة والصوم)، فتأكيده علی النشاط السياسي العرفي وتأسيس الحكومة أكثر شبهاً بقراءة الزيدية. ومن هذا المنظار، نظرية الخميني حول الإمام مزيج من الآراء الزيدية والإسماعيلية.

كانت مؤسسة الإمام الغائب في الإمامية مؤسسةً مصنوعة لإحالة النشاط السياسي إلی مستقبل مجهول واختيار الصمت السياسي

يصل التنحّي عن التدخل في السياسة لدی الإمامية، كما قالت عالمة الإسلاميات المعاصرة، باتريشا كرون، إلی ذروته مع نظرية الغيبة للإمام الثاني عشر، خلافاً للزيدية التي تعارض نظرية غيبة الإمام غالباً. وحسب كرون، فإن الإمامية، بإبداعها نظرية غيبة الإمام "جعلت نفسها عنصراً غير خطير سياسياً بالكامل. فلم يعد يكون لديهم إمام يريدون أن يقلده الحكم؛ كما لا يمكن اعتبار أي نشاط سياسي مأذوناً من جانبه، هذا وقد فقد هذا الاتجاه نحو الموعود تأثيرَه بنظرية تخص مستقبلاً مجهولاً لا أثر له علی الحالة الراهنة". يذكر أنه إذا كانت شرعية أي ثورة سياسية يلزمها إذن الإمام، فتنتفي إمكانية الثورة أساساً بغيبته. وهذا يعني، بشكل غير مباشر، قبول افتراق الشأن السياسي عن نظيره الديني.
وحالياً، يُطرح سؤال ما إذا كانت هناك حاجة بمؤسسة الغيبة التي يمثلها الإمام الغائب مع حضور الولي الفقيه (بمثابة إمام حاضر)، والذي يمتلك صلاحياتٍ كصلاحيات رسول الله، ويمكن له جعل الأحكام الشرعية أو نسخها لا تفسيرها فحسب؟ يبدو أن الإمام المهدي (إمام الزمان حسب تعبير الشيعة) في اعتقاد الشيعة الثورية أمر زائد، وسيهمَّش تدريجياً من موقعه الكانوني في منظومة عقائد الشيعة التقليدية، شأنه، علی وجه الدقة، شأن الزيدية التي عارضت مؤسسة الإمام الغائب في الأساس؛ فكيف يكون إماماً من لم يكن له حضور فيزيقي، ولم يقم بالعدل والقسط؟ وبالاستدلال نفسه، أي: ضرورة الخروج والنشاط السياسي للإمام، لم يعتقد الزيدية بأن الأطفال يمکنهم أن يتولّوا منصب الإمامة، مع أن للشيعة إمامين كانا طفلين (التاسع والثاني عشر). كانت مؤسسة الإمام الغائب في الإمامية مؤسسةً مصنوعة لإحالة النشاط السياسي إلی مستقبل مجهول واختيار الصمت السياسي، فما الحاجة إليها في عصرنا الذي رجعنا إلی النشاط السياسي؟ من هذه الجهة، للتشيع الثوري مشابهة للمنعطف النظري للفاطميين في مصر لمّا تولوا الحكم، حيث انتقل الاعتقاد بانتظار الإمام الغائب إلی طاعة الإمام الحاضر، وهو مشابهٌ لمحورية "أتباع الولاية" و"طاعة الولي الفقيه"، وحتی "ترجيح حفظ النظام الإسلامي علی حفظ دم الإمام المهدي" لدی التشيع الثوري في إيران.
التقية
من القضايا الجوهرية الأخرى، والتي تعد نقطة افتراق بين الإمامية والزيدية، وكانت بادية في انتقادات آية الله الخميني رجال الدين التقليدين، التقية. لقد أبدع الشيعة الإمامية كجالية معرّضة للاضطهاد والتعذيب طرقاً للحفاظ علی أنفسهم، أولها. وضع السياسة جانباً بإبعاد الإمام إلی غيبةٍ لا تتناهي، وبالنتيجة التخلي عن أي ادّعاء للخلافة يقوّي ظن التنافس مع الحكام المسلطين. الثاني، إبداع مبدأ التقية والتأكيد الشديد عليها، وهي السماح بكتم المعتقدات الشيعية، وحتى وجوب هذا الكتمان. منها أنه جاء في رواية منسوبة إلی الإمام الصادق "تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له". وهناك عشرات من أحاديث صحيحة أخری في التراث الإمامي في جواز التقية أو وجوبها، وهذا علی نقيض ما تعتقده أكثرية الزيدية. كانت التقية في فترة الحكام "الظالمين" تهيئ للشيعة إمكانية التعايش السلمي مع حفظ اعتقادهم القلبي، وهو المرجعية الباطنية للإمام المعصوم. بلغ هذا الأيديولوجي إلی حد أعلن كثيرون من علماء الإمامية حرمة الثورة في زمن التقية. وخلافاً للإمامية، ومتماشياً مع الزيدية، اعتبر الخميني التقية مذمومة في أصول الدين. وبلغ به الأمر، وكما هو مشهور، إلی أن حرّمها عام 1963: "لينتبه أصحاب الفضيلة أن أصول الإسلام معرّضة للخطر. القرآن والمذهب معرّضان للخطر. في هذه الحالة التقية حرام وإظهار الحقائق واجب".

راجت في السنوات الأخيرة أحاديث وروايات كثيرة لتبرير النقلة إلی الزيدية في محاضرات ألقاها الموالون للتشيع الثوري

ومن الطريف أن آية الله خامنئي، وإن اعتبر مرّات في السنوات الابتدائية لتسلمه القيادة، الالتجاءَ بالتقية لازماً، حتی في شؤون الحكم، لكنه، وبمرور الزمان، أشاد بنفيها. وقام بتمجيد اللسان الصارم والصريح في وجه الاستكبار. منها أنه أكد عام 1989 مخاطباً مسؤولي الخارجية: "إحدی القيم في مجال السياسة الخارجية لزوم أن تكون سياستنا الخارجية قائمة علی ثلاثة مبادئ: العزة والحكمة واتباع التقية". کما أشاد بالخميني سنة 2013 بسبب أنه "لم يمارس أي تقية، ولم تأخذه أي مجاملة في وجه شرور القوة الأميركية المستكبرة والمتدخلة".
راجت في السنوات الأخيرة أحاديث وروايات كثيرة لتبرير هذه النقلة إلی الزيدية في محاضرات ألقاها الموالون للتشيع الثوري. بعض أشهر هذه الأحاديث ليست لها أي جذور في التشيع الإمامي. بشكل خاص جملة "الإسلام عقيدة وجهاد"، وهي مکرّرة کثيراً إبّان الثورة الإيرانية. فإنها غير موجودة في أي مجموعة حديثية شيعية (وحتی غير شيعية)، بل هي شطر بيت لأحمد شوقي. وحتی خامنئي استعملها وأيد مضمونها، على الرغم من أنها ليست حديثا، وبالتالي لم يقلها الإمام الحسين، وهذا مخالف تماماً لرأي آية الله مطهري الذي اعتبر عزو هذه الجملة إلی إمام الشيعة وكذلك مضمونها انحرافاً وباطلاً. أما الجملة الأشهر "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"، فهي الأخری التي لم توجد في تراث الإمامية. ومع هذا، تكرّر لفظها ومضمونها علی لسان آية الله الخميني وغالبية الثوريين حديثا شيعيا، فاستخدمها الخميني كثيراً وعدّها "حديثاً" و"كلمة" و"أمراً مفيداً يجب أن يكون نموذجاً للأمة المسلمة". من منظاره "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء" عالية فُهمت خطئاً. يظنون أنه بمعنی البكاء يومياً! مع أن مضمونها يختلف عن هذا الفهم. كان الدور الذي مثلته كربلاء أن سيد الشهداء، سلام الله عليه، جاء إليها برفقة جماعة محدودة ومعدودة، ووقف في وجه ظلم يزيد والحكومة الجبارة. وقفوا في وجه إمبراطورية عصرهم، وضحّوا بالغالي والرخيص وقُتلوا، لكنهم أبوا أن يخضعوا للظلم، وهزموا يزيد. يلزم أن يكون كل مكان هكذا. كل الأيام هكذا. يجب للشعب أن يأخذ نصب عينه في جميع الأيام أن اليوم يوم عاشوراء، ويجب أن نقف ضد الظلم؛ وهنا أيضاً كربلاء، ويجب أن نطبق نحن دور كربلاء. لم تكن كربلاء منحصرة بنقطة من الأرض، أو بجماعة خاصة من الأشخاص. ليست قضية كربلاء منحصرة بجماعة يبلغ عددهم سبعين شخصاً ونيف وأرض كربلاء فحسب. كل الأراضي يجب أن تطبِّق هذه الخطة، ولم تكن غافلة عنها في يوم من الأيام".

يجب أن لا يُنسی أن التاريخ غير السياسي للشيعة، وهو تاريخ طويل وقوي، يعمل مصدرا للاستلهام متاحا للجميع بسهولة

هذا التكرار وتشبيه أحداث الثورة بحادث عاشوراء يلازم ضمنياً تشبيه الخميني بالإمام الثالث للشيعة أيضاً، وهو تفسير زيدي لاستمرارية الإمامة الجهادية مجدّداً، ويختلف عن منظار الإمامية حول عظمة مكانة الإمام وتفردها. وقد أثار تشبيه القادة السياسية بأئمة الشعية احتجاجَ بعض التقليدين في السنوات الأخيرة.
الخاتمة
لم أدّع أنه كان هناك تحوّل أيديولوجي نحو العقيدة الزيدية متعمد لدی التشيع الثوري، بل حدثت هذه التحولات النظرية تبعاً للظروف والاقتضاءات الاجتماعية والسياسية الخاصة، فإذا تغيرت هذه التحولات والاقتضاءات، فليس ببعيد أن يحدث التحوّل في النظريات الدينية ملاءمة لها. هذا ويجب أن لا يُنسی أن التاريخ غير السياسي للشيعة، وهو تاريخ طويل وقوي، يعمل مصدرا للاستلهام متاحا للجميع بسهولة. فإذا استخلص رجال الدين أن النشاط السياسي لا يعيد فائدة للطائفة الشيعية، فبإمکانهم أن يستقوا من هذه المصادر. ومن الممکن أن يکون تکوّن التيارات غير السياسية ونموها في المدارس العلمية في مشهد وقم في العقود الأخيرة مؤشّراً سابقاً لأوانة علی هذا التغيير لدی بعض العلماء.