المؤشّر العربي يناقض الشعبوية بشأن التدين

المؤشّر العربي يناقض الشعبوية بشأن التدين

25 أكتوبر 2020
+ الخط -

مع شيوع الأحكام الشعبوية العامة على الإسلام والمسلمين في العالم، والمنطلقة غالبًا من انطباعات أو مواقف حدّية مسبقة، تأتي نتائج المؤشر العربي للعام 2020، والتي أعلنها أخيرا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لتقدم نتائج عملية تناقض هذه الأحكام المرتجلة، وتحيل الباحثين إلى الوقائع والبيانات. تؤكد نتائج محور التدين في العالم العربي أن الوضع لم يتغير تغيرًا مهما منذ انطلاق المؤشر عام 2011، حيث يعرب أقل من ربع المستجوبين (23%) عن أنهم متدينون جدًا، و(63%) أنهم متدينون إلى حد ما، فالأغلبية ترى نفسها متدينة بوجهٍ من الوجوه، لكن الأهم هنا ما تكشف عنه النتائج التفصيلية، والتي تفسّر تصور المتدينين لمعنى تدّينهم، وبأي اعتبار يرون شخصًا ما متدينًا. وقد كشف المؤشر أن علامات التدين، في نظر المتدينين أنفسهم، ذات منزع أخلاقي في أغلبها، إذ احتلت الممارسة الدينية (إقامة الفروض والعبادات) من علامات التدين (39%) فقط، فيما توزّعت علامات التدين الأخرى على سلوكيات أخلاقية، يشترك فيها المتدينون وغير المتدينين كالصدق والأمانة (27%) وحسن معاملة الآخرين (17%) وصلة الرحم (7%) ومساعدة الفقراء (7%)، مع تفاوتٍ بين الأقاليم في ترتيب أهمية بعض علامات التدين.

وتؤكّد نتيجة أخرى في المؤشر هذا المنزع الأخلاقي في تصوّر التدين، إذ ترفض أغلبية الرأي العام العربي مقولة إن غير المتدين سيئ، كما ترفض الأغلبية تكفير المنتمين لأديان أخرى، أو مَن لهم وجهات نظر أخرى في تفسير الدين، كما لا تتعامل الأغلبية (61%) مع الناس على أساس تدينهم، فيما يفضل نحو الثلث (31%) التعامل مع المتدينين، مع ملاحظة مظاهر التدين المشار إليها.

ترفض الغالبية تأثير رجال الدين في قرارات الحكومة والتصويت، كما يرفضون أن تستخدم الحكومة الدين لدعم سياستها

هذه التصورات لدى الرأي العام العربي عن التدين بأنه في أغلبه سلوكيات أخلاقية تدعمها نتائج أخرى في المؤشر نفسه، حيث ترفض الغالبية تأثير رجال الدين في قرارات الحكومة والتصويت، كما يرفضون أن تستخدم الحكومة الدين لدعم سياستها، أو أن يستخدم المرشحون الدين. والواضح هنا أن الدين يُفهم بمعناه الخاص، فترفض الأغلبية توظيفه أغراضا سياسية شخصية، وهذا البعد المرفوض من استغلال الدين يساعد في فهم الموقف المنقسم في العالم العربي من مسألة فصل الدين عن السياسة، إذ ينحاز أكثرية (49%) إلى فصل الدين عن السياسة فيما يعارض (44%) الفصل. وهذا الانقسام ينبغي أيضًا أن يفهم، في ضوء فهم الناس للدين، كما عبروا عنه، أعني الأبعاد الأخلاقية التي أشير إليها، فعندما تعلق الأمر بالسلوك الشخصي، كانت الأجوبة صريحة، وعبّرت الأغلبية عن انحيازها للتدين جدًا أو إلى حدّ ما. أما عندما يتعلق الأمر بالسياسة، فالأمر يحتاج إلى ضبط المقصود بالدين في علاقته معها، أهو المعنى الخاص أم المعنى الأخلاقي الواسع؟ في هذا المستوى، يحتاج المستجوَبُ إلى وقفة، ومن الطبيعي أن تتأرجح الإجابة بحسب ما يُتَصور الدين هنا، أهو بعده الأخلاقي، فهل نفصل السياسة عن الأخلاق؟ أم هو معناه الخاص، فهل تتحكّم رؤى رجال الدين بالسياسة؟ ربما لو تم تحرير المقصود بالدين في السؤال للمستجوبين لما كان هذا الانقسام، ولكانت الإجابة ذات طابع أغلبي بالفصل، كما هو الرأي العام الرافض توظيف الدين في السياسة، على أن هذا الانقسام، وللأسباب نفسها، لا يخص الرأي العام، بل هو موضوع إشكالي لدى النخب، بما فيها الأحزاب الإسلامية، ويرجع الأمر إلى إشكالية الدين والعلمانية المزمنة. 

ثمة محور آخر في المؤشر العربي، يؤكد الأغلبية المحتملة المشار إليها في مسألة فصل الدين عن السياسة، هو موقف الرأي العام (88%) السلبي من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ونظائره، وتفسيرهم لها كظاهرة بأنها صناعة خارجية (55%) أو نتيجة أوضاع المنطقة وصراعاتها (27%). ونلحظ من الإجابة على سؤال آخر في المؤشر أن المستَطلَعين أنفسهم واعون بالعوامل التي أسهمت في ظهور "داعش" ونظائره، فترى نسبة لا بأس بها (42%) أنها نتيجة التعصب والتطرف، و(33%) أنها نتيجة سياسات الأنظمة، ولعل هذا الانقسام في أسباب الظاهرة يعبر عن تكامل في تفسيرها، بمعنى أن التعصب والتطرّف هو نتيجة سياسات الأنظمة نفسها، وليس نتيجة الدين، إذ لا ترى الأغلبية أن المشكلة في الدين نفسه، فقط (7%) يرون أن علاج الإرهاب والتطرّف هو في تنقيح الدين.

تتشابه نتائج المؤشر العربي فيما يخص التدين مع دراسات أخرى خارج العالم العربي

تتشابه نتائج المؤشر العربي فيما يخص التدين مع دراسات أخرى خارج العالم العربي، فقد توصلت دراسة صدرت حديثًا عن مؤسسة كونراد أديناور (أكتوبر/ تشرين الأول 2020) أن الدین یلعب دوراً مھماً في ألمانیا، على الرغم من أن نحو ثلث السكان (34%) يصنفون أنفسهم لا دينيين، وهم أكبر مجموعة اجتماعیة في البلاد. وحسب الدراسة، يُصَنِّفُ ثلث المسلمین أنفسهم "متدینین للغایة"، وهي نسبة أكثر من العالم العربي، والتي لم تبلغ الربع (23%)، فيما قال 44 % منهم إنھم لا يرون جيدًا العیش وفقاً لقواعد دينية صارمة. وخلصت الدراسة أيضًا إلى أن الغالبية العظمى من المسلمین منفتحون، حین یتعلق الأمر بتقبل الأدیان الأخرى على الصعید الاجتماعي. كما تكشف الدراسة، التي شملت أكثر من ثلاثة آلاف شخص، أن نسبة من يرون أنفسهم متدينين جدًا، أو إلى حد ما، متقاربة بين جميع الطوائف الدينية في ألمانيا حسب الاستطلاع (76% المسلمون، 73% الكاثوليك، 70 % بروتستانت، 68% أرثوذكس).

وتكشف هذا المقارنة أن الأزمات في العالم لا ترتبط باعتقادات الناس وتصوراتها، إنما تكمن في السياسات التي تحكم العالم والبلاد، وأن الدين جزء مهم من حياة الناس، أيًا كانت أديانهم. ومهمّا تغيرت الظروف، سيظل الدين حاضرًا بشكل أو بآخر، لا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، في أوطانهم أو خارجها، أو بين المسلمين وغير المسلمين، فالسؤال المهم في أي سياق يكون الناس، وكيف يعبرون عن أنفسهم، عندما يكون الفرد (أو الجماعة) في سياق مأزوم، ستنعكس أزمته في مظاهر كثيرة منها التدين. ومن يرى الأثر وينسى السياق كمن يريد أن يحوّل الأزمة التي يراها إلى أساس وبنية جوهرية، ويبني عليها، بمعنى أنه لا يبحث عن حلّ، إنما يرغب بتوظيف الأزمة، وإن أدّى ذلك لاستدامتها.