القضية الفلسطينية تستعيد مكانتها

القضية الفلسطينية تستعيد مكانتها

20 مايو 2021
+ الخط -

لم يكن يدور في خلد أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، ديفيد بن غوريون، وهو يطلق قولته المعلومة: ''الكبار سيموتون والصغار سينسون''، أن الشعب الفلسطيني، بأجياله المتعاقبة، سينجح في اختبار الذاكرة وإبقاء قضيته حية أزيد من سبعة عقود. مات الأجداد والآباء، لكن الأحفاد لم ينسوا، وظلوا يتوارثون حكايات بيوتهم التي سطا عليها المستوطنون الصهاينة الأوائل. وذلك ما يرعب الكيان الصهيوني؛ إصرار الفلسطينيين، في أراضي الـ 48 والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، على الدفاع عن عدالة قضيتهم واستماتتهم في إبقاء فصولها المأساوية مفتوحة أمام الضمير العالمي.

ما يحدث، داخل المدن المحتلة سنة 1948، يُذكّر بالطبيعة المركّبة للصراع، ويعزّز وحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة المؤامرات التي تستهدف الإجهاز على حقوقه. وكان الإضراب الشامل الذي عمّ، الثلاثاء الماضي، هذه المدن ومحافظات الضفة الغربية، تنديداً بالعدوان على غزة وغيرها، رسالةً دالّة ليس فقط إلى قادة إسرائيل، بل إلى كل القوى الإقليمية والدولية التي تريد تعويم القضية في تسوياتٍ مشبوهة. فلأول مرة، منذ عقود، ينتقل الصراع إلى طور غير متوقع، إذ لم تعد معادلته تقتصر على الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة التي تمثل أساس حل الدولتين وفق الشرعية الدولية التي يجسّدها قرار مجلس الأمن 242 الصادر عقب حرب 1967، ذلك أن دخول فلسطينيي الداخل، الذين يمثلون 20% من سكان إسرائيل، على الخط، ووقوفهم ضد العدوان الإسرائيلي، أعاد فلسطين التاريخية إلى الواجهة باعتبارها جوهر الصراع، وعمَّق، بالتالي، الأزمة السياسية والثقافية والأخلاقية للكيان الصهيوني.

تكشف هذه الجولة من الصراع فشلَ هذا الكيان في دفع القضية الفلسطينية نحو غياهب النسيان. وإذا كان قد انتصر في معظم مواجهاته مع النظام الرسمي العربي، إلا أنه، في المقابل، أخفق في تحقيق السلم الأهلي والاجتماعي للمستوطنين الذين استقدمهم من مختلف بقاع العالم، فبنيته العنصرية لا تتحمّل سلاماً حقيقياً يعيد للفلسطينيين بعض حقوقهم المسلوبة. ولذلك رفض، ولا يزال، مختلف مبادرات التسوية التي قُدّمت على أساس حل الدولتين، لأنه يدرك أن للصراع واجهاتٍ ديمغرافية وثقافية لن يكون في وسعه إدارتها على المدى البعيد، في حالة قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة على حدوده.

ولعل أبرز ما في هذه الجولة خسارة إسرائيل معركة الرأي العام الدولي أمام موجة التعاطف العربي والدولي مع الفلسطينيين، فقد قوبلت مجازرها الوحشية بحق المدنيين العزّل في غزة بتنديد شعبي واسع. وفي الوقت ذاته، كشفت الأحداث مرة أخرى نفاقَ الدول الغربية الكبرى وانحيازها المكشوف إلى الرواية الإسرائيلية. وهو أمرٌ كان متوقعاً بسبب الدور التاريخي المعلوم لهذه الدول في بناء المشروع الصهيوني ورعايته. وما إخفاقُ مجلس الأمن الدولي في إصدار بيان أو قرار حتى كتابة هذه السطور إلا دليل على هذا الانحياز الذي يستمر في تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

في ذلك كله تستجدُّ الحاجة إلى قيادة فلسطينية جديدة تُنهي الانقسام، وتقطع مع البؤس السياسي الذي أصبح عليه طيفٌ واسعٌ من النخب الفلسطينية؛ قيادة بشرعية سياسية جديدة، تستوعب المتغيرات الحاصلة على الساحة الفلسطينية والإقليمية والدولية، وتعيد قراءة ميزانِ القوى وتركيبة الرأي العام الدولي، ضمن برنامج وطني جامع يُعيد بناءَ المشروع الوطني الفلسطيني، بالتوازي مع فتح جبهاتٍ قانونيةٍ وإعلاميةٍ وثقافيةٍ تعيد موضعة القضية الفلسطينية في عالم اليوم، وهو ما يتطلب أداءً نوعياً متواصلاً من خلال شبكاتٍ أهليةٍ تستثمر جيداً الوجود الفلسطيني في مختلف أنحاء العالم.

فاجأت هذه الجولة الكيان الصهيوني والقوى الدولية والإقليمية، وخلطت الأوراق، واستعادت القضية الفلسطينية مكانتها في الوجدان الشعبي العربي. وتجد الأنظمة العربية المطبِّعةُ مع إسرائيل نفسها في موقفٍ حرج بسبب تقديراتها الخاطئة، ولعل ذلك ما يفسّر الارتباك الواضح في عواصمها، التي قد ينتظر ''بعضها" بفارغ الصبر أن تحسم إسرائيل هذه الجولة ليكون في وسعها، مجدّداً، المساومة على الحقوق الفلسطينية.