الفساد والوضع الاقتصادي السيئ بالمؤشّر العربي 2022

الفساد والوضع الاقتصادي السيئ في المؤشّر العربي 2022

28 يناير 2023
+ الخط -

يا للحظ التعيس للاقتصاد، كم هو نادرٌ في قراءات ونقد بيانات المؤشّر العربي الذي ينتظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في إصداره. ربما لأن قضايا السياسة، كالرّبيع العربي، ووضع الديمقراطية، والتديّن والعروبة، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي هي أكثر صخبا في عالمنا العربي، وربما لأنّها تناسب أحلام المثقفين، كشريحةٍ اجتماعية معنيّة بالمواضيع الأخيرة، أكثر من الأولى. يظهر المؤشّر بياناتٍ، ويضع استنتاجاتٍ غاية في الأهمية بشأن فكرة المقال؛ يقول إن الأوضاع الاقتصادية لمواطني المنطقة العربية غير مُرضيةٍ، وإنَّ دخول نسبة 42% تغطي فقط احتياجاتهم الأساسية، ولا يستطيعون الادخار (أسر الكفاف) بينما 28% تعيش في حالة عوزٍ وحاجة، ولا تغطي دخولهم احتياجاتهم، ويعتمدون، وهذا المأساوي، على المعونات والاقتراض (أسر العوز) وباستثناء مواطني الخليج، فإنّ مجموع الفئتين، هو70%، أي أنَّ أغلبية الشعب العربي تعيشُ حالةٍ اقتصاديّةٍ سيئٍّة.

وعن الاتجاه العام للتطوّر، رأى 52% أنّه نحو الأسوأ، ومن هذه النسبة 40% عزوا الأمر إلى أسبابٍ اقتصادية، بينما فقط 14% إلى الأوضاع السياسة. وفي الاستطلاع الخاص بأسباب الثورات العربية، أي بما يتعلق بـ 2011، رأت نسبة 25% أن السبب هو الفساد، و16% هو الأوضاع الاقتصادية، وأمّا الديكتاتورية فـ14%، والديمقراطية لم تتعد 4% وكذلك الكرامة، وأمّا مقياس المؤامرة المحتكرة من محور الممانعة للثورات فلم تزد عن 1%. يؤكّد المؤشّر أنَّ الفساد منتشر بنسبة 87%، ومنذ 2011.

توضح البيانات أعلاه أحوال الأغلبيّة العربيّة، وأنَّ أوضاعها الكارثية كانت سببًا للثورات، أي أن أهداف الثورات الأساسية هي تحسين الأوضاع الاقتصادية، ومكافحة الفساد؛ والفساد هو ممارسة تنتمي للسلطة ولمؤسسات الدولة، بما فيه القطاع الإنتاجي العام، وهناك الأجور المتدنّية بالقطاع الخاص، والذي يندُر فيه الفساد، حيث سيكون ضد مصلحته مباشرة. القطاعات الاجتماعية المتضرّرة من الفئتين، العام والخاص، مختلفة أيضا، وهذا يفتح النافذة نحو فهمٍ أعمق لسبب اشتراك عدّة شرائح اجتماعية في الثورات، وكذلك التعدّد السياسي وغير السياسي فيها، وربما هذا ما شوّش وأعاق رؤية الأسباب الأكثر أهميّة، ثمَّ الأقل، كما تظهرها بيانات المؤشّر.

استنتاج إن الثورات ستحدُث مجدّداً ما لم يتجه الاقتصاد نحو قطاعات الصناعة أولاً، والزراعة ثانياً

جاءت العوامل الأخرى كأسبابٍ للثورات بعد العاملين أعلاه، كمناهضة الديكتاتورية والديمقراطية والكرامة. إن تفسير اندلاع الثورات بالأوضاع الاقتصادية والفساد، كأسبابٍ أولى، يعود إلى انتهاج الأنظمة العربية السياسات الليبرالية الجديدة، والالتزام بوصفات البنوك الدولية ونهب القطاع العام، والتي خفّضت من الدعم ومكتسبات الأغلبية في العمل والتعليم والصحة والسكن، وأدّت إلى نتائج كارثية على قطاعات الصناعة والزراعة، وانفلات الأسعار، وهذا ما زاد من التذمّر الاجتماعي، وأوجد كتلة اجتماعية واسعة، عاطلة عن العمل أو بأجورٍ زهيدة، كما أشارت الأرقام أعلاه. وقاد هذا إلى تكون الثورات شعبيّة، وانفجاريّة، وشارك بها ملايين الناس، وربما هي السبب في "العدوى" الثوريّة إلى بقيّة البلاد العربية، والتي تعاني من مشكلاتٍ مماثلة.

هناك اتجاه فكري ساد أخيرا، يؤكد أن ثورات السودان والعراق ولبنان، في 2019 وما بعد، وما يحدُث في سورية، أخيرا، من احتجاجات، يمكن اعتبارها ثورات اقتصادية، أو ثورات الجياع، بينما ثورات 2011 كانت ثورات حقوقٍ، أي من أجل الديمقراطية، وهذا يتطلب تدقيقا. والمسألة ليست بسيطة على هذا النحو، حيث ننبّه إلى عدم الاهتمام الجاد بأوضاع تلك الأغلبيّة ولا بكوارث السياسات الليبراليّة في عام 2011، ولا بالواقع العربي عامة، وتمَّ الركون إلى مطالبٍ سياسيّة عامة، ولكنها تأتي بالبنود التالية للثورات، كما يقول المؤشّر. ذلك الاهتمام بالديمقراطية، وعدا عمّا ورد في مقدّمة المقال، فإنّها، والحريات، كانت دائمًا قضية أساسية في برامج المعارضات العربية، ومنذ عقودٍ، وبسبب أنّ أغلبيتها "المعارضات" قوى ليبرالية، فهي بالضرورة ليست معنيّة بأوضاع الأغلبية العربية؛ ما قلناه هنا لا يلغي أهميتها، بل نراها المدخل، ونقصد التحوّل الديمقراطي، نحو تغيير أوضاع الأكثرية والمجتمع عامة.

عامل آخر لنقدنا هنا، يتعلق بكيفية النهوض بأوضاعنا، وسنفترض أن التحوّل الديمقراطي قد حدث. فما العمل بعد الديمقراطية؟ لاحظ هنا، تجربتي تونس ومصر، ما قبل انقلاب عبد الفتاح السيسي وقيس سعيّد، وهنا يجب التخلص من فكرة أن المهم أن تتحقق الديمقراطية ثم نتكلم عمّا بعد، وهي على منوال، فلتنتصر الثورة، ولا يهم ماذا بعد. أثبتت هذه الأفكار كارثيتها في كل العالم العربي، حيث انتصرت الثورة المضادّة، وعقدت تحالفا مشينا مع الكيان الصهيوني، وبقصد إحكام قبضتها على العالم العربي وضمنها فلسطين. مجدّدا، القضية الأدق عربيا، كيف ننهض اقتصاديّا، ونغيّر مجرى التطوّر عن أن يكون ريعيّا ولصالح فئات قليلة من السلطات والتجار، ليكون الاقتصاد منتجا وتنافسيّا على الصعيد العالمي، ولفائدة الأغلبية التي قامت بالثورات. ولهذا، هناك استنتاج إن الثورات ستحدُث مجدّدًا ما لم يتّجه الاقتصاد نحو قطاعات الصناعة أولًا، والزراعة ثانيا كما تمَّ في الصين وكوريا الجنوبية والنمور الآسيوية، وبذلك تتوفر فرص العمل للأغلبيّة.

ثورات السودان والعراق ولبنان، في 2019 وما بعد، وما يحدُث في سورية، أخيراً، من احتجاجات، يمكن اعتبارها ثورات اقتصادية، أو ثورات جياع

يستلزم التحوّل نحو الاقتصاد الصناعي تجفيف منابع الفساد، وسوء الأوضاع الاقتصادية بالضرورة، وبالتالي، كيف ستتحقّق هذه القضيّة؛ هنا القضية الجذرية. يضع "المؤشّر" مبضعه على المشكلة الحقيقية في العالم العربي عبر العنصرين السابقين؛ فإذا كان تجفيف الفساد يتطلب الحريات والديموقراطية وتفعيل النقابات والحريات الصحفية ومشاركة الشعب في المؤسسات، فإنَّ تجاوز الأوضاع الاقتصادية السيئة غير ممكنٍ من دون اقتصادٍ صناعيٍّ أولًا. ولكن القضية هنا، من سيسمح باقتصادٍ منتجٍ، عالميّا ومحليّا؛ سيما أن السياسات الليبرالية تفرض نفسها عالميّا، وبلداننا ضمنها، وهي ضد الاقتصاد المنتج، ومع التجارة والاقتصاد الريعي، وجعل أسواقنا أسواقًا للشركات العالمية، وفي ذلك تلعب الصين دورا كبيرا، وهناك رؤوس الأموال العربية التي تفضّل الربح السريع، أي التجارة والبنوك وبالطبع الاقتصاد الريعي، وستكون فاعلة في أيّة سلطة مقبلة، أو مستمرّة.

كما حدّد المؤشّر السببين، الأوّل والثاني، للثورات، حدّد أن الشعوب تفضل النظام الديمقراطي، 71%، وصحيح أنّ تقييم مؤشّر الديموقراطية لم يكن عاليًّا، تقريبًا، خمسة من عشر درجاتٍ، إلّا أنّه اعتبرها أفضل أشكال الحكم. وبالتالي، هناك ضرورة لرؤية فكريّة وسياسيّة، تعزّز من أهمية الديمقراطية، وضرورة الاقتصاد الصناعي بشكلٍ رئيسيٍّ، والسؤال: من هي الفئات والأحزاب والقوى، أو أيّة فعاليات مجتمعية لها مصلحة في ذلك؟.

ستُنتَقد ملاحظاتنا، بأنّها أراء خاصة، وهي كذلك، ولكنّ السؤال يظلُّ قائما، كيف يمكن تجنّب الديكتاتورية أو أيِّ شكلٍ من أشكال الحكم التسلطي، والاقتصاد الليبرالي والريعي من جديد، وحلّ مشكلة الأغلبيّة العربيّة المهمّشة، التي بعضها في حالة عوزٍ والأخرى في حالةٍ كفافٍ، والاستثناء هو مواطنو الخليج بسبب قلّة العدّد وكثرة النفط والغاز، والتنويع في الاقتصاد في العقد الأخير، وندرة الفساد، كما يقول المؤشّر.